منتدى دموع عيون حبيبى
منتدى دموع عيون حبيبى يرحب بالاعضاء الجدد واهلا بالزوار
منتدى دموع عيون حبيبى
منتدى دموع عيون حبيبى يرحب بالاعضاء الجدد واهلا بالزوار
منتدى دموع عيون حبيبى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


معنا ترى كل ما هو جديد
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
عدد زوار المنتدى

عدد زوار المنتدى

الساعة الان
المواضيع الأخيرة
» تحميل الفيلم الهندي Kasme vaade 1978 اميتاب باتشان مترجم
تفسير سورة البقرة I_icon_minitimeالجمعة يوليو 11, 2014 5:00 am من طرف زائر

» ديمو
تفسير سورة البقرة I_icon_minitimeالسبت فبراير 23, 2013 7:23 pm من طرف RoMa

» صور ديمو متجدد
تفسير سورة البقرة I_icon_minitimeالسبت فبراير 23, 2013 7:07 pm من طرف RoMa

» صور ديمو
تفسير سورة البقرة I_icon_minitimeالسبت فبراير 23, 2013 6:16 pm من طرف RoMa

» تحميل مسلسل محمد رسول الله كامل برابط واحد
تفسير سورة البقرة I_icon_minitimeالجمعة أكتوبر 05, 2012 9:05 pm من طرف مصطفى

» عضو جديد هل من ترحيب
تفسير سورة البقرة I_icon_minitimeالأربعاء مايو 09, 2012 10:36 pm من طرف RoMa

» احدث صور الممثل الهندى شاروخان 2012
تفسير سورة البقرة I_icon_minitimeالجمعة مارس 23, 2012 4:53 pm من طرف RoMa

» تكريم شاروخان في افتتاح مراكش "السينمائي" ال 11 2012
تفسير سورة البقرة I_icon_minitimeالجمعة مارس 23, 2012 4:51 pm من طرف RoMa

» اخر اخبار الملك شاروخان 2012
تفسير سورة البقرة I_icon_minitimeالجمعة مارس 23, 2012 4:49 pm من طرف RoMa

أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
RoMa
تفسير سورة البقرة Vote_rcapتفسير سورة البقرة Voting_barتفسير سورة البقرة Vote_lcap 
شمس
تفسير سورة البقرة Vote_rcapتفسير سورة البقرة Voting_barتفسير سورة البقرة Vote_lcap 
مايا
تفسير سورة البقرة Vote_rcapتفسير سورة البقرة Voting_barتفسير سورة البقرة Vote_lcap 
ميرو
تفسير سورة البقرة Vote_rcapتفسير سورة البقرة Voting_barتفسير سورة البقرة Vote_lcap 
شيكو
تفسير سورة البقرة Vote_rcapتفسير سورة البقرة Voting_barتفسير سورة البقرة Vote_lcap 
مصطفى
تفسير سورة البقرة Vote_rcapتفسير سورة البقرة Voting_barتفسير سورة البقرة Vote_lcap 
شاروخان
تفسير سورة البقرة Vote_rcapتفسير سورة البقرة Voting_barتفسير سورة البقرة Vote_lcap 
رورو
تفسير سورة البقرة Vote_rcapتفسير سورة البقرة Voting_barتفسير سورة البقرة Vote_lcap 
BNT
تفسير سورة البقرة Vote_rcapتفسير سورة البقرة Voting_barتفسير سورة البقرة Vote_lcap 
egyptionhak
تفسير سورة البقرة Vote_rcapتفسير سورة البقرة Voting_barتفسير سورة البقرة Vote_lcap 
مقياس الحب

دخول

 

 تفسير سورة البقرة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
RoMa
Admin
RoMa


عدد المساهمات : 1980
نقاط : 6051
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 04/09/2011
العمر : 29
الموقع : دموع عيون حبيبى

تفسير سورة البقرة Empty
مُساهمةموضوع: تفسير سورة البقرة   تفسير سورة البقرة I_icon_minitimeالأحد أكتوبر 30, 2011 11:01 pm

سورة البقرة


(ذكر ما ورد في فضلها) قال الإمام أحمد حدثنا عارم حدثنا معتمر عن أبيه عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «البقرة سنام القرآن وذروته. نزل مع كل آية منها ثمانون ملكاً واستخرجت {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} من تحت العرش فوصلت بها أو فوصلت بسورة البقرة, ويس قلب القرآن لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الاَخرة إلا غفر له واقرؤوها على موتاكم» انفرد به أحمد وقد رواه أحمد أيضاً عن عارم عن عبد الله بن المبارك عن سليمان التيمي عن أبي عثمان ـ وليس بالنهدي ـ عن أبيه عن معقل بن يسار قال, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اقرؤوها على موتاكم» يعني يس ـ فقد تبين بهذا الإسناد معرفة المبهم في الرواية الأولى. وقد أخرج هذا الحديث على هذه الصفة في الرواية الثانية أبو داود والنسائي وابن ماجه, وقد روى الترمذي من حديث حكيم بن جبير وفيه ضعف عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لكل شيءٍ سنام وإن سنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن آية الكرسي» وفي مسند أحمد وصحيح مسلم والترمذي والنسائي من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا تجعلوا بيوتكم قبوراً فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان» وقال الترمذي: حسن صحيح وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثني ابن أبي مريم عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سنان بن سعد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الشيطان يخرج من البيت إذا سمع سورة البقرة تقرأ فيه» سنان بن سعد ويقال بالعكس وثقه ابن معين واستنكر حديثه أحمد بن حنبل وغيره. وقال أبو عبيد حدّثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن أبي الأحوص عن عبد الله ـ يعني ابن مسعود ـ رضي الله عنه قال: إن الشيطان يفرّ من البيت يسمع فيه سورة البقرة. ورواه النسائي في اليوم والليلة وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث شعبة ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن كامل حدثنا أبو إسماعيل الترمذي حدثنا أيوب بن سليمان بن بلال حدثني أبو بكر بن أبي أويس عن سليمان بن بلال عن محمد بن عجلان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا ألفين أحدكم يضع إحدى رجليه على الأخرى يتغنى ويدع سورة البقرة يقرؤها فإن الشيطان يفر من البيت تقرأ فيه سورة البقرة وإن أصغر البيوت الجوف الصفر من كتاب الله» وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة عن محمد بن نصر عن أيوب بن سليمان به. وروى الدارمي في مسنده عن ابن مسعود قال: ما من بيت تقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله ضراط. وقال إن لكل شيء سناماً وإن سنام القرآن سورة البقرة وإن لكل شيء لباباً وإن لباب القرآن المفصل. وروى أيضاً من طريق الشعبي قال: قال عبد الله بن مسعود من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة, أربع من أولها وآية الكرسي, وآيتان بعدها, وثلاث آيات من آخرها, وفي رواية لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان, ولا شيء يكرهه, ولا يقرأن على مجنون إلا أفاق. وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن لكل شيء سناماً وإن سنام القرآن البقرة وإن من قرأها في بيته ليلة لم يدخله الشيطان ثلاث ليال ومن قرآها في بيته نهاراً لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام» رواه أبو القاسم الطبراني وأبو حاتم وابن حبان في صحيحه وابن مردويه من حديث الأزرق بن علي حدثنا حسان بن إبراهيم حدثنا خالد بن سعيد المدني عن أبي حازم عن سهل به. وعند خالد بن حبان بن سعيد المديني. وقد روى الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الحميد بن جعفر عن سعيد المقبري عن عطاء مولى أبي أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً وهم ذوو عدد فاستقرأهم فاستقرأ كل واحد منهم ما معه من القرآن فأتى على رجل من أحدثهم سناً فقال ما معك يا فلان فقال معي كذا وكذا وسورة البقرة. فقال أمعك سورة البقرة ؟ قال نعم قال: اذهب فأنت أميرهم» فقال رجل من أشرافهم والله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلا أني خشيت أن لا أقوم بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تعلموا القرآن واقرؤوه فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأ وقام به كمثل جراب محشو مسكاً يفوح ريحه في كل مكان ومثل من تعلمه فيرقد وهو في جوفه كمثل جراب أوكى على مسك» هذا لفظ رواية الترمذي ثم قال هذا حديث حسن ثم رواه من حديث الليث عن سعيد عن عطاء مولى أبي أحمد مرسلاً فالله أعلم. قال البخاري: وقال الليث حدثني يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أسيد بن حضير رضي الله عنه قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة ـ وفرسه مربوطة عنده ـ إذ جالت الفرس, فسكت فسكنت, فقرأ فجالت الفرس, فسكت فسكنت ثم قرأ فجالت الفرس, فانصرف, وكان ابنه يحيى قريباً منها ـ فأشفق أن تصيبه فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها, فلما أصبح حدّث النبي صلى الله عليه وسلم فقال «اقرأ يا ابن حضير» قال: قد أشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريباً فرفعت رأسي وانصرفت إليه فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها قال «وتدري ما ذاك ؟» قال لا قال «تلك الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم» وهكذا رواه الإمام العالم أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب فضائل القرآن عن عبد الله بن صالح, ويحيى بن بكير عن الليث به. وقد روي من وجه آخر عن أسيد بن حضير كما تقدم والله أعلم. وقد وقع نحو من هذا لثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه وذلك فيما رواه أبو عبيد حدثنا عباد بن عباد عن جرير بن حازم عن عمه جرير بن يزيد أن أشياخ أهل المدينة حدّثوه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: ألم تر ثابت بن قيس بن شماس لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح قال «فلعله قرأ سورة البقرة» قال: فسألت ثابتاً فقال: قرأت سورة البقرة» وهذا إسناد جيد إلا أن فيه إبهاماً ثم هو مرسل والله أعلم.



(ذكر ما ورد في فضلها مع آل عمران)

قال الإمام أحمد حدّثنا أبو نعيم حدّثنا بشر بن مهاجر حدّثني عبد الله بن بريدة عن أبيه قال كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول «تعلموا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة» قال ثم سكت ساعة ثم قال «تعلموا سورة البقرة وآل عمران فإنهما الزهراوان يظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صوّاف وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب فيقول له هل تعرفني ؟ فيقول: ما أعرفك فيقول أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر وأسهرت ليلك وإن كل تاجر من وراء تجارته وإنك اليوم من وراء كل تجارة فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله ويوضع على رأسه تاج الوقار ويكسى والداه حلتان لا يقوم لهما أهل الدنيا فيقولان بما كسينا هذا فيقال بأخذ ولدكما القرآن ثم يقال اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها فهو في صعود ما دام يقرأ هذّاً كان أو ترتيلاً» وروى ابن ماجه من حديث بشر بن المهاجر بعضه وهذا إسناد حسن على شرط مسلم فإن بشراً هذا خرج له مسلم ووثقه ابن معين وقال النسائي: ما به بأس إلا أن الإمام أحمد قال فيه هو منكر الحديث قد اعتبرت أحاديثه فإذا هي تأتي بالعجب وقال البخاري: يخالف في بعض حديثه وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يحتج به وقال ابن عدي: روى ما لا يتابع عليه وقال الدارقطني: ليس بالقوي (قلت) ولكن لبعضه شواهد فمن ذلك حديث أبي أمامة الباهلي قال الإمام أحمد حدّثنا عبد الملك بن عمر حدّثنا هشام عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلام عن أبي أمامة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «اقرؤوا القرآن فإنه شافع لأهله يوم القيامة اقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان طير صواف يحاجان عن أهلهما يوم القيامة ثم قال اقرؤوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة» وقد رواه مسلم في الصلاة من حديث معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام عن جده أبي سلام ممطور الحبشي عن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي به الزهراوان: المنيرتان, والغياية: ما أظلك من فوقك, والفِرْقُ: القطعة من الشيء, والصواف المصطفة المتضامة, والبطلة السحرة, ومعنى لا تستطيعها أي لا يمكنهم حفظها وقيل لا تستطيع النفوذ في قارئها والله أعلم. ومن ذلك حديث النواس بن سمعان قال الإمام أحمد: حدّثنا يزيد بن عبد ربه حدّثنا الوليد بن مسلم عن محمد بن مهاجر عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرَشي عن جبير بن نفير قال: سمعت النواس بن سمعان الكلابي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمهم سورة البقرة وآل عمران» وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال «كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما» ورواه مسلم عن إسحاق بن منصور عن يزيد بن عبدربه به, والترمذي من حديث الوليد بن عبد الرحمن الجرشي به وقال حسن غريب, وقال أبو عبيد: حدّثنا حجاج عن حماد بن سلمة عن عبد الملك بن عمير قال: قال حماد أحسبه عن أبي منيب عن عمه أن رجلاً قرأ البقرة وآل عمران فلما قضى صلاته قال له كعب أقرأت البقرة وآل عمران ؟ قال: نعم قال: فوالذي نفسي بيده إن فيهما اسم الله الذي إذا دعي به استجاب. قال فأخبرني به قال: لا والله لا أخبرك به ولو أخبرتك به لأوشكت أن تدعوه بدعوة أهلك فيها أنا وأنت, وحدّثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن سليم بن عامر أنه سمع أبا أمامة يقول: إن أخاً لكم أري في المنام أن الناس يسلكون في صدع جبل وَعِرٍ طويل وعلى رأس الجبل شجرتان خضراوان يهتفان هل فيكم قارى يقرأ سورة البقرة ؟ وهل فيكم قارى يقرأ سورة آل عمران ؟ قال فإذا قال الرجل نعم دنتا منه بأعذاقهما حتى يتعلق بهما فيخطران به الجبل, وحدّثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن أبي عمران أنه سمع أم الدرداء تقول: إن رجلاً ممن قرأ القرآن أغار على جار له فقتله وإنه أقيد به فقتل فما زال القرآن ينسل منه سورة سورة حتى بقيت البقرة وآل عمران جمعة ثم إن آل عمران انسلت منه وأقامت البقرة جمعة فقيل لها {ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد} قال فخرجت كأنها السحابة العظيمة قال أبو عبيد أراه يعنى أنهما كانتا معه في قبره يدفعان عنه ويؤنسانه فكانتا من آخر ما بقي معه من القرآن. وقال أيضاً حدثنا أبو مسهر الغسّاني عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي أن يزيد بن الأسود الجرشي كان يحدث أنه من قرأ البقرة وآل عمران في يوم بري من النفاق حتى يمسي ومن قرأهما في ليلة بري من النفاق حتى يصبح قال فكان يقرؤها كل يوم وليلة سوى جزئه. وحدّثنا عن ورقاء بن إياس عن سعيد بن جبير قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قرأ البقرة وآل عمران في ليلة كان ـ أو كتب ـ من القانتين فيه انقطاع ولكن ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله وآله وسلم قرأ بهما في ركعة واحدة.



ذكر ما ورد في فضل السبع الطوال

قال أبو عبيد حدّثنا هشام بن إسماعيل الدمشقي عن محمد بن شعيب عن سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي المليح عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت السبع الطوال مكان التوراة وأعطيت المئين مكان الإنجيل وأعطيت المثاني مكان الزبور وفضلت بالمفصل» هذا حديث غريب وسعيد بن أبي بشير وفيه لين وقد رواه أبو عبيد عن عبد الله بن صالح عن الليث عن سعيد بن أبي هلال قال بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذكره والله أعلم ثم قال: حدّثنا إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب عن حبيب بن هند الأسلمي عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أخذ السبع فهو حبر» وهذا أيضاً غريب وحبيب بن هند بن أسماء بن هند بن حارثة الأسلمي وروى عنه عمرو بن عمرو وعبد الله بن أبي بكرة وذكره أبو حاتم الرازي ولم يذكر فيه جرحاً فا لله أعلم. وقد رواه الإمام أحمد عن سليمان بن داود وحسين كلاهما عن إسماعيل بن جعفر به, ورواه أيضاً عن أبي سعيد عن سليمان بن بلال عن حبيب بن هند عن عائشة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال«من أخذ السبع الأول من القرآن فهو حبر» قال أحمد: وحدّثنا حسين حدثنا ابن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله قال عبد الله بن أحمد: وهذا أرى فيه عن أبيه عن الأعرج ولكن كذا كان في الكتاب فلا أدري أغفله أبي أو كذا هو مرسل وروى الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً وهم ذوو عدد وقدم عليهم أحدثهم سناً لحفظه سورة البقرة وقال له: «اذهب فأنت أميرهم» وصححه الترمذي ثم قال أبو عبيد: حدّثنا هشيم أنبأ أبو بشر عن سعيد بن جبير في قوله تعالى {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني} قال هي السبع الطوال البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس قال وقال مجاهد هي السبع الطوال وهكذا قال مكحول وعطية بن قيس وأبو محمد الفارسي وشداد بن أوس ويحيى بن الحارث الذماري في تفسير الاَية بذلك وفي تعدادها وإنّ يونس هي السابعة.

(فصل) والبقرة جميعها مدنية بلا خلاف وهي من أوائل ما نزل بها لكن قوله تعالى فيه {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} الاَية يقال إنها آخر ما نزل من القرآن ويحتمل أن تكون منها وكذلك آيات الربا من آخر ما نزل وكان خالد بن معدان يسمي البقرة فسطاط القرآن, قال بعض العلماء وهي مشتملة على ألف خبر وألف أمر وألف نهي, وقال العادّون آياتها مائتان وثمانون وسبع آيات وكلماتها ستة آلاف كلمة ومائتان وإحدى وعشرون كلمة وحروفها خمسة وعشرون ألفاً وخمسمائة حرف فا لله أعلم. قال ابن جريح عن عطاء عن ابن عباس نزلت بالمدينة سورة البقرة, وقال خصيف عن مجاهد عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت بالمدينة سورة البقرة, وقال الواقدي حدّثني الضحاك بن عثمان عن أبي الزناد بن خارجة بن ثابت عن أبيه قال نزلت البقرة بالمدينة وهكذا قال غير واحد من الأئمة والعلماء والمفسرين ولا خلاف فيه. وقال ابن مردويه حدّثنا محمد بن معمر حدّثنا الحسن بن علي بن الوليد الفارسي حدّثنا خلف بن هشام وحدّثنا عيسى بن ميمون عن موسى بن أنس بن مالك عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لاتقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولا سورة النساء وكذا القرآن كله ولكن قولوا السورة التي يذكر فيها البقرة والتي يذكر فيها آل عمران وكذا القرآن كله» هذا حديث غريب لا يصح رفعه وعيسى بن ميمون هذا هو أبو سلمة الخواص وهو ضعيف الرواية لا يحتج به وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أنه رمى الجمرة من بطن الوادي فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ثم قال هذا المقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة أخرجاه, وروى ابن مردويه من حديث شعبة عن عقيل بن طلحة عن عتبة بن مرثد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه تأخراً فقال «يا أصحاب سورة البقرة» وأظن هذا كان يوم حنين يوم ولوا مدبرين أمر العباس فناداهم «يا أصحاب الشجرة» يعني أهل بيعة الرضوان وفي رواية «يا أصحاب سورة البقرة» لينشطهم بذلك فجعلوا يقبلون من كل وجه وكذلك يوم اليمامة مع أصحاب مسيلمة جعل الصحابة يفرون لكثافة جيش بني حنيفة فجعل المهاجرون والأنصار يتنادون يا أصحاب سورة البقرة حتى فتح الله عليهم رضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين.











بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ



** الَمَ

قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور فمنهم من قال هي مما استأثر الله بعلمه فردّوا علمها إلى الله ولم يفسروها حكاه القرطبي في تفسيره عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين, وقاله عامر الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن خيثم واختاره أبو حاتم بن حبان ومنهم من فسرها واختلف هؤلاء في معناها فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم إنما هي أسماء السور. قال العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره وعليه إطباق الأكثر ونقل عن سيبويه أنه نص عليه ويعتضد لهذا بما ورد في الصحيحيحن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة {الم} السجدة و{هل أتى على الإنسان}, وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: الم, وحم, والمص, وص. فواتح افتتح الله بها القرآن, وكذا قال غيره عن مجاهد وقال مجاهد في رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود عن شبل عن ابن أبي نجيح عنه أنه قال: الم اسم من أسماء القرآن وهكذا قال قتادة وزيد بن أسلم ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه اسم من أسماء السورة فإن كل سورة يطلق عليها اسم القرآن فإنه يبعد أن يكون المص اسماً للقرآن كله لأن المتبادر إلى فهم سامع من يقول: قرأت المص إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف لا لمجموع القرآن والله أعلم.

وقيل هي اسم من أسماء الله تعالى فقال الشعبي فواتح السور من أسماء الله تعالى وكذلك قال سالم بن عبد الله وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير وقال شعبة عن السدي: بلغني أن ابن عباس قال: الم اسم من أسماء اللهالأعظم. هكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شعبة ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي عن شعبة قال: سألت السدي عن حم وطس والم فقال ابن عباس: هي اسم الله الأعظم وقال ابن جرير وحدثنا محمد بن المثنى حدّثنا أبو النعمان حدّثنا شعبة عن إسرائيل السدي عن مرة الهمداني قال: قال عبد الله فذكر نحوه. وحكى مثله عن علي وابن عباس وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو قسم أقسم الله به وهو من أسماء الله تعالى وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث ابن علية عن خالد الحذاء عن عكرمة أنه قال الم قسم. ورويا أيضاً من حديث شريك بن عبد الله عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس, الم قال أنا الله أعلم, وكذا قال سعيد بن جبير وقال السدي عن أبي مالك.

وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الم قال: أما الم فهي حروف استفتحت من حروف هجاء أسماء الله تعالى. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى الم قال: هذه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين حرفاً دارت فيها الألسن كلها ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه, وليس منها حرف إلا وهو من آلائه, وبلائه: وليس منها حرف إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم. قال عيسى ابن مريم عليه السلام وعجب: فقال أعجب أنهم ينطقون بأسمائه ويعيشون في رزقه فكيف يكفرون به, فالألف مفتاح اسم الله واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد فالألف آلاء الله واللام لطف الله والميم مجد الله, الألف سنة واللام ثلاثون سنة والميم أربعون سنة.

هذا لفظ ابن أبي حاتم. ونحوه رواه ابن جرير ثم شرع يوجه كل واحد من هذه الأقوال ويوفق بينها وأنه لا منافاة بين كل واحد منها وبين الاَخر وأن الجمع ممكن فهي أسماء للسور ومن أسماء الله تعالى يفتتح بها السور فكل حرف منها دل على اسم من أسمائه وصفة من صفاته كما افتتح سوراً كثيرة بتحميده وتسبيحه وتعظيمه, قال ولا مانع من دلالة الحرف منها على اسم من أسماء الله وعلى صفة من صفاته وعلى مدة وغير ذلك كما ذكره الربيع بن أنس عن أبي العالية لأن الكلمة الواحدة تطلق على معاني كثيرة كلفظة الأمة فإنها تطلق ويراد به الدين كقوله تعالى {إنا وجدنا آباءنا على أمة} وتطلق ويراد بها الرجل المطيع لله كقوله تعالى {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفاً ولم يك من المشركين} وتطلق ويراد بها الجماعة كقوله تعالى {وجد عليه أمة من الناس يسقون} وقوله تعالى {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً} تطلق ويراد بها الحين من الدهر كقوله تعالى {وقال الذي نجا منهما وادّكر بعد أمة} أي بعد حين على أصح القولين قال فكذلك هذا.

هذا حاصل كلامه موجهاً ولكن هذا ليس كما ذكره أبو العالية فإن أبا العالية زعم أن الحرف دل على هذا وعلى هذا معاً ولفظة الأمة وما أشبهها من الألفاظ المشتركة في الإصلاح إنما دل في القرآن في كل موطن على معنى واحد دل عليه سياق الكلام فأما حمله على مجموع محامله إذا أمكن فمسألة مختلف فيها بين علماء الأصول ليس هذا موضع البحث فيها والله أعلم. ثم إن لفظة الأمة تدل على كل من معانيها في سياق الكلام بدلالة الوضع فأما دلالة الحرف الواحد على اسم يمكن أن يدل على اسم آخر من غير أن يكون أحدهما أولى من الاَخر في التقدير أو الإضمار بوضع ولا بغيره فهذا مما لا يفهم إلا بتوقيف, والمسألة مختلف فيها وليس فيها إجماع حتى يحكم به وما أنشدوه من الشواهد على صحة إطلاق الحرف الواحد على بقية الكلمة فإن في السياق ما يدل على ما حذف بخلاف هذا كما قال الشاعر:

قلنا قفي لنا فقالت قافلا تحسبي أنا نسينا الإيجاف



تعني وقفت وقال الاَخر:

ما للظليم عال كيف لا ياينقد عنه جلده إذا يا



فقال ابن جرير كأنه أراد أن يقول إذا يفعل كذا وكذا فاكتفى بالياء من يفعل وقال الاَخر:

بالخير خيرات وإن شراً فاولا أريد الشر إلا أن تا



يقول وإن شراً فشراً ولا أريد الشر إلا أن تشاء فاكتفى بالفاء والتاء من الكلمتين عن بقيتهما ولكن هذا ظاهر من سياق الكلام والله أعلم.

قال القرطبي وفي الحديث «من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة» الحديث قال سفيان هو أن يقول في اقتل «اق». وقال خصيف عن مجاهد أنه قال فواتح السور كلها (ق وص وحم وطسم والر) وغير ذلك هجاء موضوع وقال بعض أهل العربية: هي حروف من حروف المعجم استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفاً كما يقول القائل: ابني يكتب في ـ ا ب ت ث ـ أي في حروف المعجم الثمانية والعشرين فيستغنى بذكر بعضها عن مجموعها حكاه ابن جرير.

قلت مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفاً وهي ـ ا ل م ص ر ك هـ ي ع ط س ح ق ن ـ يجمها قولك: نص حكيم قاطع له سر. وهي نصف الحروف عدداً والمذكور منها أشرف من المتروك وبيان ذلك من صناعة التصريف: قال الزمخشري وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أصناف أجناس الحروف يعني من المهموسة والمجهورة, ومن الرخوة والشديدة, ومن المطبقة والمفتوحة ومن المستعلية والمنخفضة, ومن حروف القلقلة. وقد سردها مفصلة ثم قال: فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته. وهذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله ومن ههنا لحظ بعضهم في هذا المقام كلاماً فقال: لا شك أن هذه الحروف لم ينزلها سبحانه وتعالى عبثاً ولا سدى, ومن قال من الجهلة إن في القرآن ما هو تعبد لا معنى له بالكلية فقد أخطأ خطأً كبيراً, فتعين أن لها معنى في نفس الأمر فإن صح لنا فيها عن المعصوم شيء قلنا به وإلا وقفنا حيث وقفنا وقلنا {آمنا به كل من عند ربنا} ولم يجمع العلماء فيها على شيء معين وإنما اختلفوا فمن ظهر له بعض الأقوال بدليل فعليه اتباعه وإلا فالوقف حتى يتبين هذا المقام.

المقام الاَخر في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور ما هي مع قطع النظر عن معانيها في أنفسها, فقال بعضهم إنما ذكرت ليعرف بها أوائل السور حكاه ابن جرير وهذا ضعيف لأن الفصل حاصل بدونها فيما لم تذكر فيه وفيما ذكرت فيه البسملة تلاوة وكتابة وقال آخرون بل ابتدى بها لتفتح لاستماعها أسماع المشركين إذ تواصوا بالإعراض عن القرآن حتى إذا استمعوا له تلا عليهم المؤلف منه حكاه ابن جرير أيضاً وهو ضعيف لأنه لو كان كذلك لكان ذلك في جميع السور لا يكون في بعضها بل غالبها وليس كذلك أيضاً لانبغىَ الابتداء بها في أوائل الكلام معهم سواء كان افتتاح سورة أو غير ذلك ثم إن هذه السورة والتي تليها أعني البقرة وآل عمران مدنيتان ليستا خطاباً للمشركين فانتقض ما ذكروه بهذه الوجوه. وقال آخرون بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكره فيها بياناً لإعجاز القرآن وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها, وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين, وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا, وقرره الزمخشري في كشافه ونصره أتم نصر, وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس بن تيمية وشيخنا الحافظ المجتهد أبو العجاج المزي وحكاه لي عن ابن تيمية.

قال الزمخشري ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت كما كررت قصص كثيرة وكرر التحدي بالصريح في أماكن قال وجاء منها على حرف واحد كقوله ـ ص ن ق ـ وحرفين مثل {حم} وثلاثة مثل {الم} وأربعة مثل {المر} و {المص} وخمسة مثل {كهيعص ـ و ـ حمعسق} لأن أساليب كلامهم على هذا من الكلمات ما هو على حرف وعلى حرفين وعلى ثلاثة وعلى أربعة وعلى خمسة لا أكثر من ذلك (قلت) ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته وهذا معلوم بالاستقراء وهو الواقع في تسع وعشرين سورة ولهذا يقول تعالى {الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه} {الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه} {المص * كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه} {الر * كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم} {الم * تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين} {حم * تنزيل من الرحمن الرحيم} {حم * عسق * كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم} وغير ذلك من الاَيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن النظر والله أعلم.

وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم فقد ادعى ما ليس له, وطار في غير مطاره, وقد ورد في ذلك حديث ضعيف وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته وهو ما رواه محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله بن رئاب قال مر أبو ياسر بن أخطب في رجال في يهود برسول الله وهو يتلو فاتحة سورة البقرة {الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه} فأتى أخاه حي بن أخطب في رجال من اليهود فقال تعلمون والله لقد سمعت محمداً يتلو فيما أنزل الله تعالى عليه {الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه} فقال أنت سمعته قال نعم قال فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل الله عليك {الم * ذلك الكتاب} ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بلى» فقالوا جاءك بهذا جبريل من عند الله ؟ فقال «نعم» قالوا لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بيّن لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك. فقام حي بن أخطب وأقبل على من كان معه فقال لهم الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة ؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد هل مع هذا غيره فقال نعم, قال ما ذاك ؟ قال «المص» قال هذا أثقل وأطول, الألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد سبعون فهذه إحدى وثلاثون ومائة سنة. هل مع هذا يا محمد غيره ؟ قال: نعم, قال ما ذاك ؟ قال الر. قال هذا أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والراء مائتان فهذه إحدى وثلاثون ومائتان سنة. فهل مع هذا يا محمد غيره ؟ قال «نعم» قال ماذا قال «المر» قال هذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والراء مائتان فهذه إحدى وسبعون ومائتان ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً. ثم قال قوموا عنه, ثم قال أبو ياسر لأخيه حي بن أخطب ولمن معه من الأحبار ما يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وثلاثون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان فذلك سبعمائة وأربع سنين ؟ فقالوا لقد تشابه علينا أمره فيزعمون أن هؤلاء الاَيات نزلت فيهم {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات} فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي وهو ممن لا يحتج بما انفرد به ثم كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحاً أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها وذلك يبلغ منه جملة كثيرة وإن حسبت مع التكرر فأطم وأعظم والله أعلم.









** ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتّقِينَ

قال ابن جريج قال ابن عباس ذلك الكتاب أي هذا الكتاب وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم وابن جريج أن ذلك بمعنى هذا والعرب تعارض بين اسمي الإشارة فيستعملون كلاً منهما مكان الاَخر وهذا معروف في كلامهم وقد حكاه البخاري عن معمر بن المثنى عن أبي عبيدة وقال الزمخشري ذلك إشارة إلى {الم} كما قال تعالى {لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك} وقال تعالى {ذلك حكم الله يحكم بينكم} وقال {ذلكم الله} وأمثال ذلك مما أشير به إلى ما تقدم ذكره والله أعلم. وقد ذهب بعض المفسرين فيما حكاه القرطبي وغيره أن ذلك إشارة إلى القرآن الذي وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بإنزاله عليه أو التوراة أو الإنجيل أو نحو ذلك في أقوال عشرة. وقد ضعف هذا المذهب كثيرون والله أعلم.

والكتاب القرآن ومن قال: إن المراد بذلك الكتاب الإشارة إلى التوراة والإنجيل كما حكاه ابن جرير وغيره فقد أبعد النجعة وأغرق في النزع وتكلف ما لا علم له به. والريب الشك قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا ريب فيه} لا شك فيه وقال أبو الدرداء وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك ونافع مولى ابن عمر وعطاء وأبو العالية والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان والسدي وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد وقال ابن أبي حاتم لا أعلم في هذه خلافاً. وقد يستعمل الريب في التهمة قال جميل:

بثينة قالت يا جميل أربتنيفقلت كلانا يا بثين مريب

واستعمل أيضاً في الحاجة كما قال بعضهم:

قضينا من تهامة كل ريبوخيبر ثم أجمعنا السيوفا

ومعنى الكلام هنا أن هذا الكتاب هو القرآن لا شك فيه أنه نزل من عند الله كما قال تعالى في السجدة {الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين} وقال بعضهم هذه خبر ومعناه النهي أي لا ترتابوا فيه. ومن القراء من يقف على قوله تعالى {لا ريب} ويبتدى بقوله تعالى {فيه هدى للمتقين} والوقف على قوله تعالى {لا ريب فيه} أولى للاَية التي ذكرناها ولأنه يصير قوله تعالى {هدى} صفة للقرآن وذلك أبلغ من كون فيه هدى, وهدى يحتمل من حيث العربية أن يكون مرفوعاً على النعت ومنصوباً على الحال وخصت الهداية للمتقين كما قال {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد} {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً} إلى غير ذلك من الاَيات الدالة على اختصاص المؤمنين بالنفع بالقرآن لأنه هو في نفسه هدى ولكن لا يناله إلا الأبرار كما قال تعالى {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين} وقد قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم {هدى للمتقين} يعني نوراً للمتقين وقال أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس قال: هدى للمتقين قال هم المؤمنون الذين يتقون الشرك بي ويعملون بطاعتي وقال محمد بن إسحاق: عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس {للمتقين} قال الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به. وقال سفيان الثوري عن رجل عن الحسن البصري قوله تعالى للمتقين قال: اتقوا ما حرم الله عليهم وأدّوا ما افترض عليهم, وقال أبو بكر بن عياش سألني الأعمش عن المتقين قال فأجبته فقال لي سل عنها الكلبي فسألته فقال الذين يجتنبون كبائر الإثم قال فرجعت إلى الأعمش فقال يرى أنه كذلك ولم ينكره. وقال قتادة للمتقين هم الذين نعتهم الله بقوله {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة} الاَية والتي بعدها, واختيار ابن جرير أن الاَية تعم ذلك كله وهو كما قال. وقد روى الترمذي وابن ماجه من رواية أبي عقيل عن عبد الله بن يزيد عن ربيعة بن يزيد وعطية بن قيس عن عطية السعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذراً مما به بأس» ثم قال الترمذي حسن غريب وقال ابن أبي حاتم حدّثنا أبي حدّثنا عبد الله بن عمران عن إسحاق بن سليمان يعني الرازي عن المغيرة بن مسلم عنميمون أبي حمزة قال: كنت جالساً عند أبي وائل فدخل علينا رجل يقال له أبو عفيف من أصحاب معاذ فقال له شقيق بن سلمة يا أبا عفيف ألا تحدّثنا عن معاذ بن جبل قال بلى سمعته يقول يحبس الناس يوم القيامة في بقيع واحد فينادي مناد أين المتقون ؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر. قلت من المتقون قال قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة فيمرون إلى الجنة. ويطلق الهدى ويراد به ما يقرّ في القلب من الإيمان وهذا لا يقدر على خلقه في قلوب العباد إلا الله عز وجل قال الله تعالى {إنك لا تهدي من أحببت} وقال {ليس عليك هداهم} وقال {من يضلل الله فلا هادي له} وقال {من يهد الله فهو المهتد * ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً} إلى غير ذلك من الاَيات ويطلق ويراد به بيان الحق وتوضيحه والدلالة عليه والإرشاد قال الله تعالى {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} وقال {إنما أنت منذر ولكل قوم هاد} وقال تعالى {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} وقال {وهديناه النجدين} على تفسير من قال المراد بهما الخير والشر وهو الأرجح والله أعلم وأصل التقوى التوقي مما يكره لأن أصلها وقوى من الوقاية قال النابغة:

سقط النصيف ولم ترد إسقاطهفتناولته واتقتنا باليد



وقال الاَخر:

فألفت قناعاً دونه الشمس واتقتبأحسن موصولين كف ومعصم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://domoo3.own0.com/
RoMa
Admin
RoMa


عدد المساهمات : 1980
نقاط : 6051
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 04/09/2011
العمر : 29
الموقع : دموع عيون حبيبى

تفسير سورة البقرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة   تفسير سورة البقرة I_icon_minitimeالأحد أكتوبر 30, 2011 11:03 pm

وقد قيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له أما سلكت طريقاً ذا شوك ؟ قال بلى, قال فما عملت قال شمرت واجتهدت قال فذلك التقوى. وقد أخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال:
خل الذنوب صغيرهاو كبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرةإنّ الجبال من الحصى
وأنشد أبو الدرداء يوماً:
يريد المرء أن يؤتى مناهويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي وماليوتقوى الله أفضل ما استفادا
وفي سنن ابن ماجه عن أبي أمامة رضي الله عنه قال رسول لله صلى الله عليه وسلم «ما استفاد المرء بعد تقوى الله خيراً من زوجة صالحة إن نظر إليها سرته, وإن أمرها أطاعته, وإن أقسم عليها أبرته, وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله».



** الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ وَممّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قال أبو جعفر الرازي عن العلاء بن المسيب بن رافع عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: الإيمان التصديق, وقال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما يؤمنون يصدّقون وقال معمر عن الزهري: الإيمان العمل, وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس يؤمنون يخشون.


قال ابن جرير: والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولاً وعملاً واعتقاداً وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل, والإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله وكتبه ورسله وتصديق الإقرار بالفعل (قلت) أما الإيمان في اللغة فيطلق على التصديق المحض وقد يستعمل في القرآن والمراد به ذلك كما قال تعالى {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين} وكما قال إخوة يوسف لأبيهم {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} وكذلك إذا استعمل مقروناً مع الأعمال كقوله تعالى {إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات} فأما إذا استعمل مطلقاً فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً وقولاً وعملاً. هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيدة وغير واحد إجماعاً: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وقد ورد فيه آثار كثيرة وأحاديث أفردنا الكلام فيها في أول شرح البخاري ولله الحمد والمنّة. ومنهم من فسره بالخشية كقوله تعالى: {إن الذين يخشون ربهم بالغيب} وقوله: {من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب} والخشية خلاصة الإيمان والعلم كما قال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماءُ} وقال بعضهم يؤمنون بالغيب كما يؤمنون بالشهادة وليسوا كما قال تعالى عن المنافقين {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون} وقال: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} فعلى هذا يكون قوله بالغيب حالاً أي في حال كونهم غيباً عن الناس.
وأما الغيب المراد ههنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه وكلها صحيحة ترجع إلى أن الجميع مراد, قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قوله تعالى: {يؤمنون بالغيب} قال ويؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاَخر وجنته وناره ولقائه ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث, فهذا غيب كله. وكذا قال قتادة بن دعامة وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار وما ذكر في القرآن, وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بالغيب قال بما جاء منه ـ يعني من الله تعالى ـ وقال سفيان الثوري عن عاصم عن زر قال: الغيب القرآن وقال عطاء بن أبي رباح من آمن بالله فقد آمن بالغيب وقال إسماعيل بن أبي خالد يؤمنون بالغيب قال: بغيب الإسلام وقال زيد بن أسلم: الذين يؤمنون بالغيب قال: بالقدر. فكل هذه متقاربة في معنى واحد لأن جميع المذكورات من الغيب الذي يجب الإيمان به.
وقال سعيد بن منصور: حدّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوساً فذكرنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقونا به فقال عبد الله: إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بيّناً لمن رآه والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيماناً أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ {الم, ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ـ إلى قوله ـ المفلحون} وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في مستدركه من طرق عن عن الأعمش به. وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وفي معنى هذا الحديث الذي رواه أحمد حدثنا أبو المغيرة أنبأ الأوزاعي حدّثني أسد بن عبد الرحمن عن خالد بن دريك عن ابن محيريز قال قلت لأبي جمعة حدّثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم أحدّثك حديثاً جيّداً: تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح قال: يا رسول الله هل أحد خير منا ؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك. قال «نعم قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني» طريق أخرى قال أبو بكر بن مردويه في تفسيره حدّثنا عبد الله بن جعفر حدّثنا إسماعيل عن عبد الله بن مسعود حدّثنا عبد الله بن صالح حدّثنا معاوية بن صالح عن صالح بن جبير قال قدم علينا أبو جمعة الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس يصلي فيه ومعنا يؤمئذٍ رجاء بن حيوة رضي الله عنه فلما انصرف خرجنا نشيعه فلما أراد الانصراف قال إن لكم جائزة وحقاً أحدّثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: هات رحمك الله قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة فقلنا يا رسول الله هل من قوم أعظم منكم أجراً ؟ آمنا بالله واتبعناك, قال: «ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء بل قوم بعدكم يأتيهم كتاب من بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه أولئك أعظم منكم أجراً مرتين» ثم رواه من حديث ضمرة بن ربيعة عن مرزوق بن نافع عن صالح بن جبير عن أبي جمعة بنحوه. وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوجادة التي اختلف فيها أهل الحديث كما قررته في أول شرح البخاري لأنه مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجراً من هذه الحيثية لا مطلقاً وكذا الحديث الاَخر الذي رواه الحسن بن عرفة العبدي حدثنا إسماعيل بن عياش الحمصي عن المغيرة بن قيس التميمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أي الخلق أعجب إليكم إيماناً ؟ قالوا الملائكة قال «وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم» ؟ قالوا فالنبيون قال « وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم ؟ قالوا فنحن قال: «وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم» ؟ قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا إن أعجب الخلق إليّ إيماناً لقوم يكونون من بعدكم يجدون صحفاً فيها كتاب يؤمنون بما فيها» قال أبو حاتم الرازي: المغيرة بن قيس البصري منكر الحديث (قلت) ولكن قد روى أبو يعلى في مسنده وابن مردويه في تفسيره والحاكم في مستدركه من حديث محمد بن حميد ـ وفيه ضعف ـ عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله أو نحوه وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقد روى نحوه عن أنس بن مالك مرفوعاً والله أعلم, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن محمد المسندي حدثنا إسحاق بن إدريس أخبرني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن سلمة الأنصاري أخبرني جعفر بن محمود عن جدته نويلة بنت أسلم قالت صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين ثم جاءنا من يخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام قال إبراهيم فحدثني رجال من بني حارثة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه ذلك قال: «أولئك قوم آمنوا بالغيب» هذا حديث غريب من هذا الوجه.













وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ وَممّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ

قال ابن عباس ويقيمون الصلاة أي يقيمون الصلاة بفروضها وقال الضحاك عن ابن عباس إقامة الصلاة إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها, وقال قتادة إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها وقال مقاتل بن حيان إقامتها المحافظة على مواقيتها وإسباغ الطهور بها وتمام ركوعها وسجودها وتلاوة القرآن فيها والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهذا إقامتها.
وقال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس {ومما رزقناهم ينفقون} قال زكاة أموالهم, وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم {ومما رزقناهم ينفقون} قال نفقة الرجل على أهله وهذا قبل أن تنزل الزكاة وقال جويبر عن الضحاك كانت النفقات قرباناً يتقربون بها إلى الله على قدر ميسرتهم وجهدهم حتى نزلت فرائض الصدقات سبع آيات في سورة براءة مما يذكر فيهنّ الصدقات هن الناسخات المثبتات وقال قتادة {ومما رزقناهم ينفقون} فأنفقوا مما أعطاكم الله, هذه الأموال عوار وودائع عندك يا ابن آدم يوشك أن تفارقها.
واختار ابن جرير أنّ الاَية عامة في الزكاة والنفقات فإنه قال وأولى التأويلات وأحقها بصفة القوم أن يكونوا لجميع اللازم لهم في أموالهم مؤدين ـ زكاة كانت ذلك أو نفقة من لزمته نفقته من أهل أو عيال وغيرهم ممن يجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك لأن الله تعالى عم وصفهم ومدحهم بذلك وكل من الإنفاق والزكاة ممدوح به محمود عليه (قلت) كثيراً ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال فإن الصلاة حق الله وعبادته وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه وتمجيده والابتهال إليه ودعائه والتوكل عليه, والإنفاق هو الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم, وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون والمماليك, ثم الأجانب فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في قوله تعالى: {ومما رزقناهم ينفقون} ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت» والأحاديث في هذا كثيرة وأصل الصلاة في كلام العرب الدعاء. قال الأعشى:
لها حارس لا يبرح الدهر بيتهاوإن ذبحت صلى عليها وزمزما



وقال أيضاً:


وقابلها الريح في دنهاوصلى على دنها وارتسم



أنشدهما ابن جرير مستشهداً على ذلك وقال الاَخر وهو الأعشى أيضاً.


تقول بنتي وقد قربت مرتحلايارب جنب أبي الأوصاب والوجعاعليك مثل الذي صليت فاغتمضينوماً فإن لجنب المرء مضطجعا



يقول عليك من الدعاء مثل الذي دعيته لي. هذا ظاهر ثم استعملت الصلاة في الشرع في ذات الركوع والسجود والأفعال المخصوصة في الأوقات المخصوصة بشروطها المعروفة وصفاتها وأنواعها المشهورة. قال ابن جرير وأرى أن الصلاة سميت صلاة لأن المصلي يتعرض لاستنجاح طلبته من ثواب الله بعلمه مع ما يسأل ربه من حاجاته وقيل هي مشتقة من الصلوين إذا تحركا في الصلاة عند الركوع والسجود وهما عرقان يمتدان من الظهر حتى يكتنفان عجب الذنب ومنه سمي المصلي وهو التالي للسابق في حلبة الخيل, وفيه نظر. وقيل هي مشتقة من الصلى وهو الملازمة للشيء من قوله تعالى: {لا يصلاها} أي لا يلزمها ويدوم فيها {إلا الأشقى} وقيل مشتقة من تصلية الخشبة في النار لتقوم كما أن المصلي يقوم عوجه بالصلاة {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} واشتقاقها من الدعاء أصح وأشهر والله أعلم.


وأما الزكاة فسيأتي الكلام عليها في موضعه إن شاء الله تعالى.








** والّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ


قال ابن عباس والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك أي يصدّقون بما جئت به من الله وما جاء به من قبلك من المرسلين لا يفرّقون بينهم ولا يجحدون ما جاؤوهم به من ربهم وبالاَخرة هم يوقنون أي بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان وإنما سميت الاَخرة لأنها بعد الدنيا وقد اختلفت المفسرون في الموصوفين هنا, هل هم الموصوفون بما تقدّم من قوله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} ومن هم ؟ على ثلاثة أقوال حكاها ابن جرير أحدها أن الموصوفين أولاً هم الموصوفون ثانياً وهم كل مؤمن مؤمنو العرب ومؤمنو أهل الكتاب وغيرهم قاله مجاهد وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة, والثاني هما واحد وهم مؤمنو أهل الكتاب وعلى هذين تكون الواو عاطفة على صفات كما قال تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى. الذي خلق فسوى. والذي قدّر فهدى والذي أخرج المرعى. فجعله غثاء أحوى} وكما قال الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهماموليث الكتيبة في المزدحم



فعطف الصفات بعضها على بعض والموصوف واحد والثالث أن الموصوفين أوّلاً مؤمنو العرب والموصوفون ثانياً بقوله {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالاَخرة هم يوقنون} لمؤمني أهل الكتاب نقله السدي في تفسيره عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة واختاره ابن جرير رحمه الله ويستشهد لما قال بقوله تعالى: {وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله} الاَية وبقوله تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون} وبما ثبت في الصحيحين من حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بي ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها» وأما ابن جرير فما استشهد على صحة ما قال إلا بمناسبة وهي أن الله وصف في أول هذه السورة المؤمنين والكافرين فكما أنه صنف الكافرين إلى صنفين كافر ومنافق عربي وكتابي (قلت) والظاهر قول مجاهد فيما رواه الثوري عن رجل عن مجاهد ورواه غير واحد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: أربع آيات من أوّل سورة البقرة في نعت المؤمنين وآيتان في نعت الكافرين وثلاثة عشر في المنافقين فهذه الاَيات الأربع عامات في كل مؤمن اتصف بها من عربي وعجمي وكتابي من إنسي وجني وليس تصح واحدة من هذه الصفات بدون الأخرى بل كل واحدة مستلزمة للأخرى وشرط معها فلا يصح الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والزكاة إلا مع الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من قبله من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين والإيقان بالاَخرة كما أنّ هذا لا يصح إلا بذاك وقد أمر الله المؤمنين بذلك كما قال: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذين نزل على رسول والكتاب الذي أنزل من قبل} الاَية وقال تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد} الاَية وقال تعالى: {ياأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدّقاً لما معكم} وقال تعالى: {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم} وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك فقال تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله} وقال تعالى: {والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم} إلى غير ذلك من الاَيات الدالة على جميع أمر المؤمنين بالإيمان بالله ورسله وكتبه لكن لمؤمني أهل الكتاب خصوصية وذلك أنهم يؤمنون بما بأيديهم مفصلاً فإذا دخلوا في الإسلام وآمنوا به مفصلاً كان لهم على ذلك الأجر مرتين وأما غيرهم فإنما يحصل له الإيمان بما تقدّم مجملاً كما جاء في الصحيح «إذا حدّثكم أهل الكتاب فلا تكذبوهم ولا تصدّقوهم ولكن قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم» ولكن قد يكون إيمان كثير من العرب بالإسلام الذي بعث به

محمد صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل وأعم وأشمل من إيمان من دخل منهم في الإسلام فهم وإن حصل لهم أجران من تلك الحيثية فغيرهم يحصل له من التصديق ما ينيف ثوابه على الأجرين اللذين حصلا لهم والله أعلم.








** أُوْلَـَئِكَ عَلَىَ هُدًى مّن رّبّهِمْ وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ


يقول الله تعالى: {أولئك} أي المتصفون بما تقدم من الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والإنفاق من الذي رزقهم الله والإيمان بما أنزل إلى الرسول ومن قبله من الرسل والإيقان بالدار الاَخرة وهو مستلزم الاستعداد لها من الأعمال الصالحة وترك المحرمات {على هدى} أي على نور وبيان وبصيرة من الله تعالى: {وأولئك هم المفلحون} أي في الدنيا والاَخرة, وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس {أولئك على هدى من ربهم} أي على نور من ربهم واستقامة على ما جاءهم به {وأولئك هم المفلحون} أي الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا وقال ابن جرير وأما معنى قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم} فإن معنى ذلك فإنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديده إياهم وتوفيقه لهم وتأويل قوله تعالى: {وأولئك هم المفلحون} أي المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله من الفوز بالثواب. والخلود في الجنات والنجاة مما أعد الله لأعدائه من العقاب. وقد حكى ابن جرير قولاً عن بعضهم أنه أعاد اسم الإشارة في قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} إلى مؤمني أهل الكتاب الموصوفين بقوله تعالى: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك} الاَية, على ما تقدم من الخلاف, وعلى هذا فيجوز أن يكون قوله تعالى: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك} منقطعاً مما قبله وأن يكون مرفوعاً على الابتداء وخبره {أولئك هم المفلحون} واختار أنه عائد إلى جميع من تقدم ذكره من مؤمني العرب وأهل الكتاب لما رواه السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الذين يؤمنون بالغيب فهم المؤمنون من العرب, والذي يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك هم المؤمنون من أهل الكتاب, ثم جمع الفريقين فقال: {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} وقد تقدم من الترجيح أن ذلك صفة للمؤمنين عامة والإشارة عائدة عليهم والله أعلم.
وقد نقل عن مجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة رحمهم الله, وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري حدثنا أبي حدثنا ابن لهيعة حدثني عبيد الله بن المغيرة عن أبي الهيثم واسمه سليمان بن عبد الله عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم : وقيل له يا رسول الله إنا نقرأ من القرآن فنرجو ونقرآ من القرآن فنكاد أن نيأس أو كما قال, قال: «أفلا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار, قالوا: بلى يا رسول الله, قال: {الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ـ إلى قوله ـ المفلحون} هؤلاء أهل الجنة, قالوا إنا نرجو أن نكون هؤلاء ثم قال: {إن الذين كفروا سواء عليهم ـ إلى قوله ـ عظيم} هؤلاء أهل النار قالوا لسنا هم يا رسول الله, قال: «أجل».













** إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ


يقول تعالى: {إن الذين كفروا} أي غطوا الحق وستروه وقد كتب الله تعالى عليهم ذلك سواء عليهم إنذارك وعدمه فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به. كما قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} وقال تعالى في حق المعاندين من أهل الكتاب {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} الاَية, أي إن من كتب الله عليه الشقاوة فلا مسعد له ومن أضله فلا هادي له فلا تذهب نفسك عليهم حسرات وبلغهم الرسالة فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر ومن تولى فلا تحزن عليهم ولا يهمنك ذلك {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب * إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل} وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول, وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس {إن الذين كفروا} أي بما أنزل إليك وإن قالوا إنا قد آمنا بما جاءنا قبلك {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} أي إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق وقد كفروا بما جاءك وبما عندهم مما جاءهم به غيرك فكيف يسمعون منك إنذاراً وتحذيراً وقد كفروا بما عندهم من علمك, قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال نزلت هاتان الاَيتان في قادة الأحزاب وهم الذين قال الله فيهم: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها} والمعنى الذي ذكرناه أولاً وهو المروي عن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة أظهر, ويفسر ببقية الاَيات التي في معناها, والله أعلم.
وقد ذكر ابن أبي حاتم ههنا حديثاً فقال: حدثنا أبي حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري حدثنا ابن لهيعة حدثني عبد الله بن المغيرة عن أبي الهيثم عن عبد الله بن عمرو وقال قيل يا رسول الله (إنا نقرأ من القرآن فنرجو ونقرأ فنكاد أن نيأس) فقال: «ألا أخبركم» ثم قال: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} «هؤلاء أهل النار» قالوا لسنا منهم يا رسول الله, قال «أجل» وقوله تعالى: {لا يؤمنون} محله من الإعراب أنه جملة مؤكدة للتي قبلها {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} أي هم كفار في كلا الحالين فلهذا أكد ذلك بقوله تعالى: {لا يؤمنون} ويحتمل أن يكون لا يؤمنون خبراً لأن تقديره إن الذين كفروا لا يؤمنون ويكون قوله تعالى: {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} جملة معترضة, والله أعلم.













** خَتَمَ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِهمْ وَعَلَىَ سَمْعِهِمْ وَعَلَىَ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ


قال السدي ختم الله أي طبع الله وقال قتادة في هذه الاَية استحوذ عليهم الشيطان إذ أطاعوه فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة فهم لا يبصرون هدى ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون, وقال ابن جريج: قال مجاهد ختم الله على قلوبهم قال الطبع ثبتت الذنوب على القلب فحفت به من كل نواحيه حتى تلتقي عليه فالتقاؤها عليه الطبع والطبع الختم. قال ابن جريج الختم على القلب والسمع قال ابن جريج وحدثني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهداً يقول: الران أيسر من الطبع, والطبع أيسر من الإقفال, والإقفال أشد من ذلك كله, وقال الأعمش أرانا مجاهد بيده فقال كانوا يرون أن القلب في مثل هذه يعني الكف, فإذا أذنب العبد ذنباً ضم منه وقال بأصبعه الخنصر هكذا فإذا أذنب ضم وقال بأصبع أخرى فإذا أذنب ضم وقال بأصبع أخرى هكذا حتى ضم أصابعه كلها ثم قال يطبع عليه بطابع. وقال مجاهد كانوا يرون أن ذلك الرين, ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن الأعمش عن مجاهد بنحوه, قال ابن جرير وقال بعضهم إنما معنى قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم}

إخبار من الله عن تكبرهم وإعراضهم عن الاستماع لما دعوا إليه من الحق كما يقال إن فلاناً أصم عن هذا الكلام إذا امتنع من سماعه ورفع نفسه عن تفهمه تكبراً قال وهذا لا يصح لأن الله تعالى قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وأسماعهم (قلت) وقد أطنب الزمخشري في تقرير ما رده ابن جرير ههنا وتأول الاَية من خمسة أوجه وكلها ضعيفة جداً وما جرأه على ذلك إلا اعتزاله لأن الختم على قلوبهم ومنعها من وصول الحق إليها قبيح عنده يتعالى الله عنه في اعتقاده ولو فهم قوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} وقوله: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون} وما أشبه من الاَيات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاء وفاقاً على تماديهم في الباطل وتركهم الحق وهذا عدل منه تعالى حسن وليس بقبيح فلو أحاط علماً بهذا لما قال ما قال والله أعلم.
قال القرطبي: وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل قد وصف نفسه بالختم والطبع عل قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم كما قال: {بل طبع الله عليها بكفرهم} وذكر حديث تقليب القلوب «ويا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك» وذكر حديث حذيفة الذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض, والاَخر أسود مرباد كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً» الحديث, قال ابن جرير والحق عندي في ذلك ما صح بنظيره الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما حدثنا به محمد بن بشار حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا ابن عجلان عن القعقاع عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي قال الله تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} هذا الحديث من هذا الوجه قد رواه الترمذي والنسائي عن قتيبة والليث بن سعد وابن ماجه عن هشام بن عمار عن حاتم بن إسماعيل والوليد بن مسلم ثلاثتهم عن محمد بن عجلان به, وقال الترمذي حسن صحيح ثم قال ابن جرير فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها وإذا أغلقتها أتاها حينئذٍ الختم من قبل الله تعالى والطبع فلا يكون للإيمان إليها مسلك, ولا للكفر عنها مخلص فذلك هو الختم والطبع الذي ذكر في قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم} نظير الختم والطبع على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم وعلى سمعهم إلا بعد فض خاتمه وحل رباطه عنها.
واعلم أن الوقف التام على قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم} وقوله: {وعلى أبصارهم غشاوة} جملة تامة فإن الطبع يكون على القلب وعلى السمع, والغشاوة وهي الغطاء يكون على البصر كما قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم} يقول فلا يعقلون ولا يسمعون يقول وجعل على أبصارهم غشاوة يقول على أعينهم فلا يبصرون, وقال ابن جرير: حدثني محمد بن سعد حدثنا أبي حدثني عمي الحسين بن الحسن عن أبيه عن جده عن ابن عباس ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم والغشاوة على أبصارهم قال وحدثنا القاسم حدثنا الحسين يعني ابن داود وهو سنيد حدثني حجاج وهو ابن محمد الأعور حدثني ابن جريج قال: الختم على القلب والسمع, والغشاوة على البصر قال الله تعالى: {فإن يشأ الله يختم على قلبك} وقال: {وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة} قال ابن جرير ومن نصب غشاوة من قوله تعالى وعلى أبصارهم غشاوة يحتمل أنه نصبها بإضمار فعل تقديره وجعل على أبصارهم غشاوة يحتمل أن يكون نصبها على الإتباع على محل وعلى سمعهم كقوله تعالى: {وحور عين} وقول الشاعر:
علفتها تبناً وماء بارداًحتى شتت همالة عيناها
وقال الاَخر:
ورأيت زوجك في الوغىمتقلداً سيفاً ورمحا



تقديره وسقيتها ماء بارداً ومعتقلاً رمحاً, لما تقدم وصف المؤمنين في صدر السورة بأربع آيات ثم عرّف حال الكافرين بهاتين الاَيتين شرع تعالى في بيان حال المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ولما كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس أطنب في ذكرهم بصفات متعددة كل منها نفاق كما أنزل سورة براءة فيهم وسورة المنافقين فيهم وذكرهم في سورة النور وغيرها من السور تعريفاً لأحوالهم لتجتنب ويجتنب من تلبس بها أيضاً فقال تعالىSmile










** وَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ


النفاق هو إظهار الخير وإسرار الشر, وهو أنواع: اعتقادي, وهو الذي يخلد صاحبه في النار. وعملي وهو من أكبر الذنوب كما سيأتي تفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى, وهذا كما قال ابن جريج: المنافق يخالف قوله فعله, وسره علانيته, ومدخله مخرجه, ومشهده مغيبه, وإنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية لأن مكة لم يكن فيها نفاق بل كان خلافه من الناس من كان يظهر الكفر مستكرهاً وهو في الباطن مؤمن, فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب, وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم وكانوا ثلاث قبائل بنو قينقاع حلفاء الخزرج بنوالنضير وبنو قريظة حلفاء الأوس فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج وقلّ من أسلم من اليهود إلا عبد الله بن سلام رضي الله عنه ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضاً لأنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تخاف, بل قد كان عليه الصلاة والسلام وادع اليهود وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة فلما كانت وقعة بدر وأظهر الله كلمته وأعز الإسلام وأهله قال عبد الله بن أبي بن سلول وكان رأساًفي المدينة وهو من الخزرج وكان سيد الطائفتين في الجاهلية, وكانوا قد عزموا على أن يملكوه عليهم فجاءهم الخير وأسلموا واشتغلوا عنه فبقي في نفسه من الإسلام وأهله, فلما كانت وقعت بدر قال: هذا. أمر الله قد توجه فأظهر الدخول في الإسلام ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته ونحلته وآخرون من أهل الكتاب فمن ثم وجد النفاق في أهل المدينة ومن حولها من الأعراب فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد نافق لأنه لم يكن أحد يهاجر مكرهاً بل يهاجر فيترك ماله وولده وأرضه رغبة فيما عند الله في الدار الاَخرة. قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الاَخر وما هم بمؤمنين} يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم وكذا فسرها بالمنافقين من الأوس والخزرج أبو العالية والحسن وقتادة والسدي ولهذا نبه الله سبحانه على صفات المنافقين لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفار في نفس الأمر وهذا من المحذورات الكبار أن يظن بأهل الفجور خير فقال تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الاَخر وما هم بمؤمنين} أي يقولون ذلك قولاً ليس وراءه شيء آخر كما قال تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله} أي إنما يقولون ذلك إذا جاؤوك فقط لا في نفس الأمر, ولهذا يؤكدون في الشهادة بإن ولام التأكيد في خبرها. أكدوا أمرهم قالوا: آمنا بالله وباليوم الاَخر وليس الأمر كذلك كما كذبهم الله في شهادتهم وفي خبرهم هذا بالنسبة إلى اعتقادهم بقوله تعالى: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} وبقوله: {وما هم بمؤمنين}.
وقوله تعالى: {يخادعون الله والذين آمنوا} أي بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك, وأن ذلك نافعهم عنده, وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين كما قال تعالى: {يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا أنهم هم الكاذبون} ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله: {وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون} يقول وما يغرون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون بذلك من أنفسهم كما قال تعالى: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم} ومن القراء من قرأ {وما يخدعون إلا أنفسهم} وكلا القراءتين ترجع إلى معنى واحد وقال ابن جرير فإن قال قائل: كيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعاً وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية ؟ قيل: لا تمتنع العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي في ضميره تقية لينجو مما هو له خائف مخادعاً, فكذلك المنافق سمي مخادعاً لله وللمؤمنين بإظهاره ما ظهر بلسانه تقية بما يخلص به من القتل والسبي والعذاب العاجل وهو لغير ما أظهره مستبطن وذلك من فعله وإن كان خداعاً للمؤمنين في عاجل الدنيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع, لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها أنه يعطيها أمنيتها ويسقيها كأس سرورها, وهو موردها حياض عطبها, ومجرعها به كأس عذابها, ومذيقها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به, فذلك خديعته نفسه ظناً منه مع إساءته إليها في أمر معادها أنه إليها محسن كما قال تعالى: {وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون} إعلاماً منه عباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم عليها ربهم يكفرهم وشكهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين, ولكنهم على عمى أمرهم مقيمين. وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا علي بن المبارك فيما كتب إليّ حدثنا زيد بن المبارك حدثنا محمد بن ثور عن ابن جريج في قوله تعالى يخادعون الله قال: يظهرون لا إله إلا الله يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم وفي أنفسهم غير ذلك. وقال سعيد عن قتادة {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الاَخر وما هم بمؤمنين * يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون} نعت المنافق عند كثير: خنع الأخلاق يصدق بلسانه وينكر بقلبه ويخالف بعمله ويصبح على حال ويمسي على غيره, ويمسي على حال ويصبح على غيره, ويتكفأ تكفؤَ السفينة كلما هبت ريح هبت معها.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://domoo3.own0.com/
RoMa
Admin
RoMa


عدد المساهمات : 1980
نقاط : 6051
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 04/09/2011
العمر : 29
الموقع : دموع عيون حبيبى

تفسير سورة البقرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة   تفسير سورة البقرة I_icon_minitimeالأحد أكتوبر 30, 2011 11:03 pm

** فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ





قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الاَية {في قلوبهم مرض} قال شك فزادهم الله مرضاً قال شكاً. وقال ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس في قلوبهم مرض قال: شكاً. وكذلك قال مجاهد وعكرمة والحسن البصري وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة. وعن عكرمة وطاوس في قلوبهم مرض يعني الرياء. وقال الضحاك عن ابن عباس في قلوبهم مرض قال: نفاق فزادهم الله مرضاً قال: مرضاً وهذا كالأول. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قلوبهم مرض قال: هذا مرض في الدين وليس مرضاً في الأجساد وهم المنافقون والمرض الشك الذي دخلهم في الإسلام فزادهم الله مرضاً قال: زادهم رجساً, وقرأ {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم}. قال شراً إلى شرهم وضلالة إلى ضلالتهم, وهذا الذي قاله عبد الرحمن رحمه الله حسن وهو الجزاء من جنس العمل وكذلك قاله الأولون وهو نظير قوله تعالى أيضاً {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} وقوله {بما كانوا يكذبون} وقرى يكذّبون, وقد كانوا متصفين بهذا وهذا فإنهم كانوا كذبة ويكذبون بالغيب يجمعون بين هذا وهذا, وقد سئل القرطبي وغيره من المفسرين عن حكمة كفه عليه الصلاة والسلام عن قتل المنافقين مع علمه بأعيان بعضهم وذكروا أجوبة عن ذلك منها ما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه «أكره أن يتحدث العرب أن محمداً يقتل أصحابه» ومعنى هذا خشية أن يقع بسبب ذلك تغير لكثير من الأعراب عن الدخول في الإسلام ولا يعلمون حكمة قتله لهم وأن قتله إياهم إنما هو على الكفر فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم فيقولون: إن محمداً يقتل أصحابه, قال القرطبي وهذا قول علمائنا وغيرهم كما كان يعطي المؤلفة مع علمه بسوء اعتقادهم, قال ابن عطية: وهي طريقة أصحاب مالك نص عليه محمد بن الجهم والقاضي إسماعيل والأبهري وعن ابن الماجشون. ومنها: ما قال مالك إنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه قال القرطبي: وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه وإن اختلفوا في سائر الأحكام, قال: ومنها ما قال الشافعي إنما مَنعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم لأن ما يظهرونه يجب ما قبله. ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المجمع على صحته في الصحيحين وغيرهما «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل» ومعنى هذا أن من قالها جرت عليه أحكام الإسلام ظاهراً فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الدار الاَخرة وإن لم يعتقدها لم ينفعه جريان الحكم عليه في الدنيا وكونه كان خليط أهل الإيمان {ينادوهم ألم نكن معكم ؟ قالوا بلى, ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم, وارتبتم وغّرتكم الأماني حتى جاء أمر الله} الاَية, فهم يخالطونهم في بعض المحشر فإذا حقت المحقوقية تميزوا منهم وتخلفوا بعدهم {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} ولم يمكنهم أن يسجدوا معهم كما نطقت بذلك الأحاديث ومنها ما قاله بعضهم أنه إنما لم يقتلهم لأنه لا يخاف من شرهم مع وجوده صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم يتلو عليهم آيات مبينات فأما بعده فيقتلون إذا أظهروا النفاق وعلمه المسلمون, قال مالك: المنافق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزنديق اليوم (قلت) وقد اختلف العلماء في قتل الزنديق إذا أظهر الكفر هل يستتاب أم لا أو يفرق بين أن يكون داعية أم لا, أو يتكرر منه ارتداده أم لا, أو يكون إسلامه ورجوعه من تلقاء نفسه أو بعد أن ظهر عليه ؟ على أقوال متعددة موضع بسطها وتقريرها وعزوها كتاب الأحكام.

(تنبيه) قول من قال كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض المنافقين إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقاً في غزوة تبوك الذين هموا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلماء الليل عند عقبة هناك, عزموا على أن ينفروا به الناقة ليسقط عنها, فأوحى الله إليه أمرهم, فأطلع على ذلك حذيفة ولعل الكف عن قتلهم كان لمدرك من هذه المدارك أو لغيرها والله أعلم.

فأما غير هؤلاء فقد قال الله تعالى: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم} الاَية, وقال تعالى: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورنك فيها إلا قليلاً * ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً} ففيها دليل على أنه لم يغر بهم ولم يدرك على أعيانهم وإنما كان تذكر له صفاتهم فيتوسمها في بعضهم كما قال تعالى {ولو نشاء لأريناكم فلعرفتهم بسيماهم * ولتعرفنهم في لحن القول} وقد كان من أشهرهم بالنفاق عبد الله بن أبي بن سلول, وقد شهد عليه زيد بن أرقم بذلك الكلام الذي سبق في صفات المنافقين ومع هذا لما مات صلى الله عليه وسلم وشهد دفنه كما يفعل ببقية المسلمين وقد عاتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه فقال: «إني أكره أن تتحدث العرب أن محمداً يقتل أصحابه» وفي رواية في الصحيح «إني خيرت فاخترت» وفي رواية «لو أعلم أني لو زدت على السبعين يغفر له لزدت».

















** وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ قَالُوَاْ إِنّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلآ إِنّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـَكِن لاّ يَشْعُرُونَ





قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الطيب الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} قال: هم المنافقون أما لا تفسدوا في الأرض قال الفساد هو الكفر والعمل بالمعصية وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض} قال يعني لا تعصوا في الأرض وكان فسادهم ذلك معصية الله لأنه من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته فقد أفسد في الأرض لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة وقال ابن جريج عن مجاهد {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض} قال: إذا ركبوا معصية الله فقيل لهم لا تفعلوا كذا وكذا قالوا إنما نحن على الهدى مصلحون, وقال وكيع وعيسى بن يونس وعثان بن علي عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الأزدي عن سلمان الفارسي {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} قال سلمان لم يجى أهل هذه الاَية بعد. وقال ابن جرير حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم حدثنا عبد الرحمن بن شريك حدثني أبي عن الأعمش عن زيد بن وهب وغيره عن سلمان الفارسي في هذه الاَية قال: ما جاء هؤلاء ؟ قال ابن جرير: يحتمل أن سلمان رضي الله عنه أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فساداً من الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد, قال ابن جرير: فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه وتضييعهم فرائضه وشكهم في دينه الذي لا يقبل من أحد عمل إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلاً فذلك إفساد المنافقين في الأرض, وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها. وهذا الذي قاله حسن, فإن من الفساد في الأرض اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء كما قال تعالى {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} فقطع الله الموالاة بين المؤمنين والكافرين كما قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً} ثم قال {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً} فالمنافق لما كان ظاهره الإيمان اشتبه أمره على المؤمنين فكأن الفساد من جهة المنافق حاصل لأنه هو الذي غر المؤمنين بقوله الذي لا حقيقة له ووالى الكافرين على المؤمنين ولو أنه استمر على حاله الأول لكان شره أخف, ولو أخلص العمل لله وتطابق قوله وعمله لأفلح ونجح, ولهذا قال تعالى {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} أي نريد أن نداري الفريقين من المؤمنين والكافرين ونصطلح مع هؤلاء وهؤلاء كما قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} أي إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب يقول الله {ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} يقول ألا إن هذا الذي يعتمدونه ويزعمون أنه إصلاح هو عين الفساد ولكن من جهلهم لا يشعرون بكونه فساداً.

















** وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ النّاسُ قَالُوَاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السّفَهَآءُ أَلآ إِنّهُمْ هُمُ السّفَهَآءُ وَلَـَكِن لاّ يَعْلَمُونَ





يقول تعالى وإذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس أي كإيمان الناس بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنة والنار وغير ذلك مما أخبر المؤمنين به وعنه, وأطيعوا الله ورسوله في امتثال الأوامر وترك الزواجر {قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء} يعنون ـ لعنهم الله ـ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم, قاله أبو العالية والسدي في تفسيره بسنده عن ابن عباس وابن مسعود وغير واحد من الصحابة, وبه يقول الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وغيرهم يقولون: أنصير نحن وهؤلاء بمنزلة واحدة وعلى طريقة واحدة وهم سفهاء ؟ والسفهاء جمع سفيه كما أن الحكماء جمع حكيم والحلماء جمع حليم, والسفيه هو الجاهل الضعيف الرأي القليل المعرفة بواضع المصالح والمضار, ولهذا سمى الله النساء والصبيان سفهاء في قوله تعالى {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً} قال عامة علماء التفسير هم النساء والصبيان وقد تولى الله سبحانه جوابهم في هذه المواطن كلها فقال {ألا أنهم هم السفهاء} فأكد وحصر السفهاة فيهم {ولكن لا يعلمون} يعني ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل وذلك أردى لهم وأبلغ في العمى والبعد عن الهدى.

















** وَإِذَا لَقُواْ الّذِينَ آمَنُواْ قَالُوَا آمَنّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىَ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوَاْ إِنّا مَعَكْمْ إِنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ





يقول تعالى وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا: آمنا وأظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة غروراً منهم للمؤمنين ونفاقاً ومصانعة وتقية وليشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم {وإذا خلوا إلى شياطينهم} يعني إذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا إلى شياطينهم فضمن خلوا معنى انصرفوا لتعديته بإلى ليدل على الفعل المضمر والفعل الملفوظ به ومنهم من قال «إلى» هنا بمعنى «مع» والأول أحسن, وعليه يدور كلام ابن جرير وقال السدي عن أبي مالك: خلوا يعني مضوا, وشياطينهم سادتهم وكبراؤهم من أحبار اليهود ورؤوس المشركين والمنافقين قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم {وإذا خلوا إلى شياطينهم}: يعني هم رؤساءهم في الكفر. وقال الضحاك عن ابن عباس: وإذا خلوا إلى أصحابهم وهم شياطينهم وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس {وإذا خلوا إلى شياطينهم} من يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وقال مجاهد: {وإذا خلوا إلى شياطينهم} إلى أصحابهم من المنافقين والمشركين. وقال قتادة {وإذا خلوا إلى شياطينهم} قال إلى رؤوسهم وقادتهم في الشرك والشر وبنحو ذلك فسره أبو مالك وأبو العالية والسدي والربيع بن أنس. قال ابن جرير: وشياطين كل شيء مردته, ويكون الشيطان من الإنس والجن كما قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبّي عدواً شياطين من الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا} وفي المسند عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن» فقلت يا رسول أوَ للإنس شياطين ؟ قال «نعم» وقوله {قالوا إنا معكم} قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أي إنا على مثل ما أنتم عليه {إنما نحن مستهزئون} أي إنما نحن نستهزى بالقوم ونلعب بهم وقال الضحاك عن ابن عباس قالوا إنما نحن مستهزئون ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, وكذلك قال الربيع بن أنس وقتادة. وقوله تعالى جواباً ومقابلة على صنيعهم {الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون} وقال ابن جرير أخبر تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة في قوله تعالى {يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب} الاَية, وقوله تعالى {ولا يحسبن الذي كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما} الاَية, قال فهذا وما أشبهه من استهزاء الله تعالى ذكره وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين وأهل الشرك به عند قائل هذا القول ومتأول هذا التأويل قال: وقال آخرون بل استهزاؤه بهم توبيخه إياهم ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه والكفر به. قال: وقال آخرون هذا وأمثاله على سبيل الجواب كقول الرجل لمن يخدعه إذا ظفر به أنا الذي خدعتك. ولم يكن منه خديعة ولكن قال ذلك إذا صار الأمر إليه قالوا وكذلك قوله تعالى {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين} و { الله يستهزىء بهم} على الجواب, والله لا يكون منه المكر ولا الهزء. والمعنى أن المكر والهزء حاق بهم, وقال آخرون قوله تعالى {إنما نحن مستهزئون * الله يستهزىء بهم} وقوله {يخادعون الله وهو خادعهم} وقوله {فيسخرون منهم سخر الله منهم} و {نسوا الله فنسيهم} وما أشبه ذلك إخبار من الله تعالى أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء ومعاقبهم عقوبة الخداع فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ وإن اختلف المعنيان كما قال تعالى {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله} وقوله تعالى {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه} فالأول ظلم والثاني عدل فهما وإن اتفق لفظهما فقد اختلف معناهما, قال وإلى هذا المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك. قال: وقال آخرون إن معنى ذلك أن الله أخبر عن المنافقين أنهم إذا دخلوا إلى مردتهم قالوا إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به, وإنما نحن بما نظهر لهم من قولنا لهم مستهزئون, فأخبر تعالى أنه يستهزى بهم فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا يعني من عصمة دماءهم وأموالهم خلاف الذي عنده في الاَخرة يعني من العذاب والنكال. ثم شرع ابن جرير يوجه هذا القول وينصره لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتف عن الله عز وجل بالإجماع وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك. قال وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس حدثنا أبو كريب حدثنا أبو عثمان حدثنا بشر بن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله { الله يستهزى بهم} قال يسخر بهم للنقمة منهم, وقوله تعالى {ويمدهم في طغيانهم يعمهون} قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يمدهم يملي لهم وقال مجاهد يزيدهم, وقال تعالى: {أيحسبون إنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات ؟ بل لا يشعرون} وقال: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} قال بعضهم كلما أحدثوا ذنباً أحدث لهم نعمة وهي في الحقيقة نقمة وقال تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} قال ابن جرير والصواب نزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عتوهم وتمردهم كما قال تعالى {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون} والطغيان: هو المجاوزة في الشيء كما قال تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} وقال الضاحك عن ابن عباس في طغيانهم يعمهون في كفرهم يترددون, وكذا فسره السدي بسنده عن الصحابة وبه يقول أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس ومجاهد وأبو مالك وعبد الرحمن بن زيد في كفرهم وضلالتهم. قال ابن جرير: والعمه: الضلال. يقال عمه فلان يعمه عمها وعموهاً إذا ضل, قال وقوله في طغيانهم يعمهون في ضلالتهم, وكفرهم الذي غمرهم دنسه وعلاهم رجسه يترددون حيارى ضلالاً لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً. وقال بعضهم: العمى في العين والعمه في القلب, وقد يستعمل العمى في القلب أيضاً قال تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} وتقول عمه الرجل يعمه عموهاً فهو عمه وعامه وجمعه عمه, وذهبت إبله العمهاء إذا لم يدر أين ذهبت.

















** أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ اشْتَرُواْ الضّلاَلَةَ بِالْهُدَىَ فَمَا رَبِحَتْ تّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ





قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} قال أخذوا الضلالة وتركوا الهدى, وقال ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} أي الكفر بالإيمان, وقال مجاهد آمنوا ثم كفروا وقال قتادة: استحبوا الضلالة على الهدى, وهذا الذي قاله قتادة يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود {فأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} وحاصل قول المفسرين فيما تقدم أن المنافقين عدلوا عن الهدى إلى الضلال واعتاضوا عن الهدى بالضلالة وهو معنى قوله تعالى {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} أي بذلوا الهدى ثمناً للضلالة وسواء في ذلك من كان منهم قد حصل له الايمان ثم رجع عنه إلى الكفر كما قال تعالى فيهم {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم} أو أنهم استحبوا الضلالة على الهدى كما يكون حال فريق آخر منهم فإنهم أنواع وأقسام ولهذا قال تعالى {فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} أي ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة وما كانوا مهتدين أي راشدين في صنيعهم ذلك, وقال ابن جرير حدثنا بشير حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة {فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة ومن الجماعة إلى الفرقة ومن الأمن إلى الخوف ومن السنة إلى البدعة, وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة بمثله سواء.

















** مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاّ يُبْصِرُونَ * صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ





يقال مثل ومثل ومثيل أيضاً والجمع أمثال, قال الله تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} وتقدير هذا المثل أن الله سبحانه شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى, وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى, بمن استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله وتأنس بها فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره وصار في ظلام شديد لا يُبصر ولا يهتدي وهو مع هذا أصم لا يسمع أبكم لا ينطق أعمى لو كان ضياء لما أبصر, فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك, فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى واستحبابهم الغي على الرشد وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع, وا لله أعلم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://domoo3.own0.com/
RoMa
Admin
RoMa


عدد المساهمات : 1980
نقاط : 6051
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 04/09/2011
العمر : 29
الموقع : دموع عيون حبيبى

تفسير سورة البقرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة   تفسير سورة البقرة I_icon_minitimeالأحد أكتوبر 30, 2011 11:04 pm

وقد حكى هذا الذي قلناه الرازي في تفسيره عن السدي, ثم قال والتشبيه ههنا في غاية الصحة لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولاً نوراً ثم بنفاقهم ثانياً أبطلوا ذلك فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين.

وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل ههنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات واحتج بقوله تعالى {ومن الناس من يقول آمنا با لله وباليوم الاَخر وما هم بمؤمنين}, والصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم, وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ثم سلبوه وطبع على قلوبهم, ولم يستحضر ابن جرير هذه الاَية ههنا وهي قوله تعالى {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} فلهذا وجه هذا المثل بأنهم استضاؤوا بما أظهروه من كلمة الإيمان أي في الدنيا ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة قال وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد, كما قال {رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت} أي كدوران الذي يغشى عليه من الموت, وقال تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} وقال تعالى: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً} وقال بعضهم تقدير الكلام مثل قصتهم كقصة الذين استوقدوا ناراً, وقال بعضهم المستوقد واحد لجماعة معه وقال آخرون الذي ههنا بمعنى الذين كما قال الشاعر:

وإن الذي حانت بفلج دماؤهمهم القوم كل القوم يا أم خالد

قلت وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع في قوله تعالى: {فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون} وهذا أفصح في الكلام وأبلغ في الظلام, وقوله تعالى {ذهب الله بنورهم} أي ذهب عنهم بما ينفعهم وهو النور وأبقى لهم ما يضرهم وهو الإحراق والدخان {وتركهم في ظلمات} وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق {لا يبصرون} لا يهتدون إلى سبيل خير ولا يعرفونها وهم مع ذلك {صم} لا يسمعون خيراً {بكم} لا يتكلمون بما ينفعهم {عمي} في ضلالة وعماية البصيرة كما قال تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار, ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة.











ذكر أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه









قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة في قوله تعالى {فلما أضاءت ما حوله} زعم أن ناساً دخلوا في الإسلام مقدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة ثم إنهم نافقوا وكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله من قذى أو أذى فأبصره حتى عرف ما يتقي منه فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى, فذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال والحرام والخير والشر فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشر, وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الاَية, قال: أما النور فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون به وأما الظلمة فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به وهم قوم كانوا على هدى ثم نزع منهم فعتوا بعد ذلك. وقال مجاهد: {فلما أضاءت ما حوله} أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى, وقال عطاء الخراساني في قوله تعالى {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} قال هذا مثل المنافق يبصر أحياناً ويعرف أحياناً ثم يدركه عمى القلب. وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة والحسن والسدي والربيع بن أنس نحو قول عطاء الخراساني وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} إلى آخر الاَية. قال هذه صفة المنافقين كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ناراً ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه كما ذهب بضوء هذه النار فتركهم في ظلمات لا يبصرون, وأما قول ابن جرير فيشبه ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} قال: هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء, فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز كما سلب صاحب النار ضوءه, وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} فإنما ضوء النار ما أوقدتها, فإذا خمدت ذهب نورها وكذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الإخلاص بلا إله إلا الله أضاء له, فإذا شك وقع في الظلمة, وقال الضحاك: {ذهب الله بنورهم} أما نورهم فهو إيمانهم الذي تكلموا به, وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله} فهي لا إله إلا الله أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وآمنوا في الدنيا ونكحوا النساء وحقنوا دمائهم حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون. وقال سعيد عن قتادة في هذه الاَية: إن المعنى أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فأضاءت له في الدنيا فناكح بها المسلمين وغازاهم بها ووارثهم بها وحقن بها دمه وماله فلما كان عند الموت سلبها المنافق لأنه لم يكن لها أصل في قلبه ولا حقيقة في عمله {وتركهم في ظلمات لا يبصرون} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {وتركهم في ظلمات لا يبصرون} يقول في عذاب إذا ماتوا, وقال



محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس: {وتركهم في ظلمات} أي يبصرون الحق ويقولون به حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفؤوه بكفرهم ونفاقهم فيه, فتركهم في ظلمات الكفر فهم لا يبصرون هدى, ولا يستقيمون على حق, وقال السدي في تفسيره بسنده: {وتركهم في ظلمات} فكانت الظلمة نفاقهم. وقال الحسن البصري: وتركهم في ظلمات لا يبصرون, فذلك حين يموت المنافق فيظلم عليه عمله عمل السوء فلا يجد له عملاً من خير عمل به يصدق به قوله لا إله إلا الله: {صم بكم عمي} قال السدي بسنده: صم بكم عمي فهم خرس عمي, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {صم بكم عمي} يقول لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه, ولا يعقلونه وكذا قال أبو العالية وقتادة بن دعامة: {فهم لا يرجعون} قال ابن عباس: أي لا يرجعون إلى هدى, وكذا قال الربيع بن أنس: وقال السدي بسنده {صم بكم عمي فهم لا يرجعون} إلى الإسلام. وقال قتادة: فهم لا يرجعون, أي لا يتوبون ولا هم يذكرون,)

























** أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِيَ آذَانِهِم مّنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ





هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ويشكون تارة أخرى فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم {كصيب}, والصيب المطر, قال ابن مسعود وابن عباس وناس من الصحابة وأبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصري وقتادة وعطية العوفي وعطاء الخراساني والسدي والربيع بن أنس, وقال الضحاك: هو السحاب, والأشهر هو المطر نزل من السماء في حال ظلمات, وهي الشكوك والكفر والنفاق ورعد وهو ما يزعج القلوب من الخوف, فإن من شأن المنافقين الخوف الشديوالفزع كما قال تعالى: {يحسبون كل صيحة عليهم} وقال: {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون * لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلاً لولّوا إليه وهم يجمحون} {والبرق} هو ما يلمح في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان ولهذا قال {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين} أي ولا يجدي عنهم حذرهم شيئاً لأن الله محيط بقدرته وهم تحت مشيئته وإرادته كما قال: {هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود بل الذين كفروا في تكذيب والله من ورائهم محيط} بهم ثم قال: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} أي لشدته وقوته في نفسه, وضعف بصائرهم وعدم ثباتها للإيمان, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {يكاد البرق يخطف أبصارهم} يقول يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين وقال ابن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس {يكاد البرق يخطف أبصارهم} أي لشدة ضوء الحق كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا أي كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه وتارة تعرض لهم الشكوك أظلمت قلوبهم فوقفوا حائرين. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كلما أضاء لهم مشوا فيه يقول كلما أصاب المنافقين من عز الإسلام اطمأنوا إليه وإذا أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر كقوله تعالى {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به} وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس {كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا} أي يعرفون الحق ويتكلمون به, فهم من قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا أي متحيرين, وهكذا قال أبو العالية والحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس والسدي بسنده عن الصحابة وهو أصح وأظهر والله أعلم, وهكذا يكونون يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب إيمانهم, فمنهم من يعطى من النور ما يضيء له مسيرة فراسخ وأكثر من ذلك وأقل من ذلك, ومنهم من يطفأ نوره تارة ويضيء أخرى, فيمشي على الصراط تارة ويقف أخرى, ومنهم من يطفأ نوره بالكلية وهم الخلص من المنافقين الذين قال تعالى فيهم {يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً} وقال في حق المؤمنين {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار} الاَية, وقال تعالى: {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير}.







ذكر الحديث الوارد في ذلك





قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات} الاَية, ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أو بين صنعاء ودون ذلك حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه, رواه ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم من حديث عمران بن دَاوَر القطان عن قتادة بنحوه, وهذا كما قال المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود قال: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم وأدناهم نوراً على إبهامه يطفأ مرة ويتقد مرة, وهكذا رواه ابن جرير عن ابن مثنى عن ابن إدريس عن أبيه عن المنهال وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن علي بن محمد الطنافسي حدثنا ابن إدريس سمعت أبي يذكر عن المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود {نورهم يسعى بين أيديهم} قال على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل ومنهم من نوره مثل النخلة وأدناهم نوراً من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ أخرى, وقال ابن أبي حاتم أيضاً حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي حدثنا أبو يحيى الحماني حدثنا عتبة بن اليقظان عن عكرمة عن ابن عباس قال: ليس أحد من أهل التوحيد إلا يعطى نوراً يوم القيامة, فأما المنافق فيطفأ نوره فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين, فهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا, وقال الضحاك بن مزاحم يعطى كل من كان يظهر الإيمان في الدنيا يوم القيامة نوراً فإذا انتهى إلى الصراط طفي نور المنافقين فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا فقالوا ربنا أتمم لنا نورنا.

فإذا تقرر هذا صار الناس أقساماً, مؤمنون خلص وهم الموصوفون بالاَيات الأربع في أول البقرة وكفار خلص وهم الموصوفون بالاَيتين بعدها ومنافقون وهم قسمان: خلص وهم المضروب لهم المثل الناري, ومنافقون يترددون تارة يظهر لهم لمع الإيمان وتارة يخبو وهم أصحاب المثل المائي وهم أخف حالاً من الذين قبلهم, وهذا المقام يشبه من بعض الوجوه ما ذكر في سورة النور من ضرب مثل المؤمن وما جعل الله في قلبه من الهدى والنور بالمصباح في الزجاجة التي كأنها كوكب دري وهي قلب المؤمن المفطور على الإيمان واستمداده من الشريعة الخالصة الصافية الواصلة إليه من غير كدر ولا تخليط كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله, ثم ضرب مثل العباد من الكفار الذين يعتقدون أنهم على شيء وليسوا على شيء, وهم أصحاب الجهل المركب في قوله تعالى {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً} الاَية, ثم ضرب مثل الكفار الجهال الجهل البسيط وهم الذين قال تعالى فيهم {أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} فقسم الكفار ههنا إلى قسمين: داعية ومقلد, كما ذكرهما في أول سورة الحج {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد} وقال {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} وقد قسم الله المؤمنين في أول الواقعة وفي آخرها, وفي سورة الإنسان إلى قسمين: سابقون وهم المقربون وأصحاب يمين وهم الأبرار.

فتلخّص من مجموع هذه الاَيات الكريمات أن المؤمنين صنفان: مقربون وأبرار, وأن الكافرين صنفان: دعاة ومقلدون, وأن المنافقين أيضاً صنفان: منافق خالص, ومنافق فيه شعبة من نفاق, كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم «ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان» استدلوا به على أن الإنسان قد تكون فيه شعبة من إيمان وشعبة من نفاق. إما عملي لهذا الحديث أو اعتقادي كما دلت عليه الاَية كما ذهب عليه طائفة من السلف وبعض العلماء كما تقدم وكما سيأتي إن شاء الله. قال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا أبو معاوية يعني شيبان عن ليث عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر, وقلب أغلف مربوط على غلافه, وقلب منكوس, وقلب مصفح, فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن فسراجه فيه نوره وأما القلب الأغلف فقلب الكافر وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص عرف ثم أنكر وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق, ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه» وهذا إسناد جيد حسن.

وقوله تعالى: {ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير} قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم} قال لِمَا تركوا من الحق بعد معرفته {إن الله على كل شيء قدير} قال ابن عباس أي إن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير وقال ابن جرير: إنما وصف الله تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم محيط, وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير. ومعنى قدير قادر كما معنى عليم عالم, وذهب ابن جرير ومن تبعه من كثير من المفسرين إلى أن هذين المثلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين وتكون أو, في قوله تعالى: {أو كصيب من السماء} بمعنى الواو كقوله تعالى {ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً} أو تكون للتخيير أي اضرب لهم مثلاً بهذا وإن شئت بهذا, قال القرطبي: أو للتساوي مثل جالس الحسن أو ابن سيرين على ما وجهه الزمخشري أن كلا منهما مساو للاَخر في إباحة الجلوس إليه ويكن معناه على قوله سواء ضربت لهم مثلاً بهذا أو بهذا فهو مطابق لحالهم (قلت) وهذا يكون باعتبار جنس المنافقين فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات كما ذكرها الله تعالى في سورة براءة ـ ومنهم ـ ومنهم ـ ومنهم ـ يذكر أحوالهم وصفاتهم وما يعتمدونه من الأفعال والأقوال, فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لأحوالهم وصفاتهم, والله أعلم, كما ضرب المثلين في سورة النور لصنفي الكفار الدعاة والمقلدين في قوله تعالى {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة} إلى أن قال {أو كظلمات في بحر لجي} الاَية: فالأول للدعاة الذين هم في جهل مركب, والثاني لذوي الجهل البسيط من الأتباع المقلدين, والله أعلم بالصواب.

















** يَاأَيّهَا النّاسُ اعْبُدُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ وَالّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ * الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً وَالسّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ





شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه تعالى هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة بأن جعل لهم الأرض فراشاً أي مهداً كالفراش مقررة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات والسماء بناء وهو السقف, كما قال في الاَية الأخرى {وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون} {وأنزل لهم من السماء ماء} والمراد به السحاب ههنا في وقته عند احتياجهم إليه فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد رزقاً لهم ولأنعامهم كما قرر هذا في غير موضع من القرآن, ومن أشبه آية بهذه الاَية قوله تعالى: {الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين} ومضمونه: أنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم, فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره ولهذا قال: {فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون} وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله ؟ قال: «أن تجعل لله نداً وهو خلقك» الحديث, وكذا حديث معاذ أتدري ما حق الله على عباده ؟ «أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً» الحديث, وفي الحديث الاَخر «لا يقولن أحدكم ما شاء الله وشاء فلان, ولكن ليقل ما شاء الله ثم شاء فلان» وقال حماد بن سلمة حدثنا عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن الطفيل بن سخبرة أخي عائشة أم المؤمنين لأمها قال: رأيت فيما يرى النائم كأني أتيت على نفر من اليهود فقلت من أنتم ؟ قالوا نحن اليهود, قلت إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزير ابن الله, قالوا وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وما شاء محمد, قال ثم مررت بنفر من النصارى فقلت من أنتم ؟ قالوا نحن النصارى, قلت إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله, قالوا وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد, فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: «هل أخبرت بها أحداً ؟» قلت: نعم فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله وحده» هكذا رواه ابن مردويه في تفسير هذه الاَية من حديث حماد بن سلمة به, وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر عن عبد الملك بن عمير به بنحوه, وقال سفيان بن سعيد الثوري عن الأجلح بن عبد الله الكندي عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت فقال: «أجعلتني لله نداً ؟ قل ما شاء الله وحده» رواه ابن مردويه وأخرجه النسائي وابن ماجه من حديث عيسى بن يونس عن الأجلح به, هذا كله صيانة وحماية لجناب التوحيد, والله أعلم. وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال الله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} للفريقين جميعاً من الكفار والمنافقين, أي وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم وبه عن ابن عباس {فلا تجعلوا لله انداداً وأنتم تعلمون} أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد هو الحق الذي لا شك فيه, وهكذا قال قتادة, وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم حدثنا أبو عمرو حدثنا أبو الضحاك بن مخلد أبو عاصم حدثنا شبيب بن بشر حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {فلا تجعلوا لله أنداداً} قال الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل, وهو أن يقول والله وحياتك يا فلان وحياتي, ويقول لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة ولولا البط في الدار لأتى اللصوص, وقول الرجل لصاحبه ما شاء الله وشئت, وقول الرجل لولا الله وفلان لا تجعل فيها فلان هذا كله به شرك, وفي الحديث أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء وشئت, قال: «أجعلتني لله نداً» وفي الحديث الاَخر: «نعم القوم أنتم لولا أنكم تنددون تقولون ما شاء الله وشاء فلان» قال أبو العالية فلا تجعلوا لله أنداداً أي عدلاء شركاء, وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة والسدي وأبو مالك وإسماعيل بن أبي خالد, وقال مجاهد {فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون} قال تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل.







ذكر حديث في معنى هذه الاَية الكريمة





قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا أبو خلف موسى بن خلف وكان يعد من البدلاء حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن جده ممطور عن الحارث الأشعري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل أمر يحيى بن زكريا عليه السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن وأنه كاد أن يبطى بها فقال له عيسى عليه السلام: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني اسرائيل أن يعملوا بهن فإما أن تبلغهم وإما أن إبلغهن, فقال يا أخي إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي قال: فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد فقعد على الشرف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهم وآمركم أن تعملوا بهن, أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً, فإن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بورق أو ذهب فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده, فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً, وآمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت فإذا صليتم فلا تلتفوا, وآمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك, وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك, وآمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه, وقال لهم هل لكم أن أفتدي نفسي منكم, فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه, وآمركم بذكر الله كثيراً وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره, فأتى حصناً حصيناً فتحصن فيه وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله» قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنا آمركم بخمسٍ الله أمرني بهن: الجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله, فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ومن دعا بدعوى جاهلية فهو من جثي جهنم» قالوا: يا رسول الله وإن صام وصلى ؟ فقال: «وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم فادعوا المسملين بأسمائهم على ما سماهم الله عز وجل المسلمين المؤمنين عباد الله» هذا حديث حسن والشاهد منه في هذه الاَية قوله: «وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً» وهذه الاَية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له وقد استدل به كثير من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع تعالى وهي دالة على ذلك بطريق الأولى فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة, علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه, كما قال بعض الأعراب, وقد سئل ما الدليل على وجود الرب تعالى ؟ فقال: يا سبحان الله إن البعر ليدل على البعير, وإن أثر الأقدام لتدل على المسير, فسماء ذات أبراج, وأرض ذات فجاج, وبحار ذات أمواج ؟ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير ؟.

وحكى الرازي عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل له باختلاف اللغات والأصوال والنغمات, وعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى, فقال لهم: دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها, وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها, وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد, فقالوا: هذا شيء لا يقوله عاقل, فقال: ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع, فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا علي يديه. وعن الشافعي أنه سئل عن وجود الصانع, فقال: هذا ورق التوت طعمه واحد تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم, وتأكله النحل فيخرج منه العسل وتأكله الشاة والبقر والأنعام فتلقيه بعراً وروثاً, وتأكله الظباء فيخرج منها المسك وهو شيء واحد, وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال ههنا حصن حصين أملس ليس له باب ولا منفذ, ظاهره كالفضة البيضاء, وباطنه كالذهب الإبريز, فبينا هو كذلك إذا انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح, يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد:

تأمل في نبات الأرض وانظرإلى آثار ما صنع المليك

عيون من لجين شاخصاتبأحداق هي الذهب السبيك

على قضب الزبرجد شاهداتبأن الله ليس له شريك

وقال ابن المعتز:

فيا عجباً كيف يعصى الإلــه أم كيف يجحده الجاحد

وفي كل شيء له آيةتدل على أنه واحد
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://domoo3.own0.com/
RoMa
Admin
RoMa


عدد المساهمات : 1980
نقاط : 6051
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 04/09/2011
العمر : 29
الموقع : دموع عيون حبيبى

تفسير سورة البقرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة   تفسير سورة البقرة I_icon_minitimeالأحد أكتوبر 30, 2011 11:05 pm

وقال آخرون من تأمل هذه السموات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار النيرة من السيارة ومن الثوابت, وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها, ونظر إلى البحار المكتنفة للأرض من كل جانب, والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها كما قال تعالى: {ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود * ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك, إنما يخشى الله من عباده العلماء} وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر للمنافع وماذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأراييج والأشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء استدل على وجود الصانع وقدرته العظيمة وحكمته ورحمته بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم وبره بهم لا إله غيره ولا رب سواه, عليه توكلت وإليه أنيب, والاَيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جداً.

















** وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مّمّا نَزّلْنَا عَلَىَ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتّقُواْ النّارَ الّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ





ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو, فقال مخاطباً للكافرين: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم فأتوا بسورة من مثل ما جاء به إن زعمتم أنه من عند غير الله فعارضوه بمثل ما جاء به واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله فإنكم لا تستطيعون ذلك, قال ابن عباس: شهداءكم أعوانكم, وقال السدي عن أبي مالك شركاءكم أي قوماً آخرين يساعدونكم على ذلك, أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم, وقال مجاهد وادعوا شهداءكم قال ناس يشهدون به يعني حكام الفصحاء, وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن فقال في سورة القصص {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين} وقال في سورة سبحان {قل لئن اجتمعت الأنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً} وقال في سورة هود: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} وقال في سورة يونس: {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة من مثله وادعوا ما استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} وكل هذه الاَيات مكية, ثم تحداهم بذلك أيضاً في المدينة فقال في هذه الاَية {وإن كنتم في ريب ـ أي شك ـ مما نزلنا على عبدنا ـ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ـ فأتوا بسورة من مثله} يعني من مثل القرآن, قاله مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير والطبري والزمخشري والرازي, ونقله عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن البصري, وأكثر المحققين, ورجح ذلك بوجوه من أحسنها أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميهم وكتابيهم وذلك أكمل من التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئاً من العلوم وبدليل قوله تعالى: {فأتوا بعشر سور مثله} وقوله {لا يأتون بمثله} وقال بعضهم من مثل محمد صلى الله عليه وسلم, يعني من رجل أمي مثله, والصحيح الأول, لأن التحدي عام لهم كلهم مع أنهم أفصح الأمم وقد تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه ومع هذا عجزوا عن ذلك ولهذا قال تعالى: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} ولن لنفي التأبيد في المستقبل أي ولن تفعلوا ذلك أبداً وهذه أيضاً معجزة أخرى, وهو أنه أخبر خبراً جازماً قاطعاً مقدماً غير خائف ولا مشفق أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الاَبدين ودهر الداهرين وكذلك وقع الأمر لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن, وأنى يتأتى ذلك لأحد والقرآن كلام الله خالق كل شيء, وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين, ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنوناً ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى, قال الله تعالى: {الر * كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يحاذى ولا يدانى, فقد أخبر عن مغيبات ماضية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء, وأمر بكل خير, ونهى عن كل شر كما قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً} أي صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام, فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها, كما قيل في الشعر إن أعذبه أكذبه, وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئاً إلا قدرة المتكلم المعين على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح, ثم تجد له فيه بيت أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها هذر لا طائل تحته, وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلاً وإجمالاً ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير, فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة سواء كانت مبسوطة أو وجيزة وسواء تكررت أم لا, وكلما تكرر حلا وعلا, لا يخلق عن كثرة الرد, ولا يمل منه العلماء, وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات, فما ظنك بالقلوب الفاهمات, وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والاَذان, ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن كما قال في الترغيب {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} وقال: {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون} وقال في الترهيب: {أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر} {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير} وقال في الزجر: {فكلاً أخذنا بذنبه} وقال في الوعظ: {أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون} إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة, وإن جاءت الاَيات في الأحكام والأوامر والنواهي, اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب, والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء, كما قال ابن مسعود وغيره من السلف, إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن: {يا أيها الذين آمنوا} فأرعها سمعك فإنها خير يأمر به أو شر ينهى عنه, ولهذا قال تعالى: {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} الاَية, وان جاءت الاَيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم, بشرت به وحذرت وأنذرت, ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات, وزهدت في الدنيا ورغبت في الاَخرة, وثبتت على الطريقة المثلى, وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم, ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم. ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الاَيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة» ـ لفظ مسلم ـ وقوله صلى الله عليه وسلم: «وإنما كان الذي أوتيته وحياً» أي الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه بخلاف غيره من الكتب الإلهية فإنها ليس معجزة عند كثير من العلماء والله أعلم, وله عليه الصلاة والسلام من الاَيات الدالة على نبوته وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر ولله الحمد والمنة.

وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة وقول المعتزلة في الصرفة, فقال: إن كان هذا القرآن معجزاً في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ولا في قواهم معارضته فقد حصل المدعى وهو المطلوب, وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا ذلك مع شدة عداوتهم له كان ذلك دليلاً على أنه من عند الله لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك, وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته كما قررنا إلا أنها تصلح على سبيل التنزل والمجادلة والمنافحة عن الحق وبهذه الطريقة أجاب الرازي في تفسيره عن سؤاله في السور القصار كالعصر وإنا أعطيناك الكوثر.

وقوله تعالى: {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} أما الوقود, بفتح الواو, فهو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه, كما قال تعالى: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً} وقال تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون} والمراد بالحجارة ههنا هي حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة, وهي أشد الأحجار حراً إذا حميت أجارنا الله منها, وقال عبد الملك بن ميسرة الزراد عن عبد الرحمن بن سابط بن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: {وقودها الناس والحجارة} قال هي حجارة من كبريت, خلقها الله يوم خلق السموات والأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين. رواه ابن جرير وهذا لفظه وابن أبي حاتم والحاكم في مستدركه وقال على شرط الشيخين. وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرّة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: اتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة, أما الحجارة فهي من كبريت أسود يعذبون به مع النار, وقال مجاهد حجارة من كبريت أنتن من الجيفة, وقال أبو جعفر محمد بن علي حجارة من كبريت, وقال ابن جريج حجارة من كبريت أسود في النار, وقال لي عمرو بن دينار: أصلب من هذه الحجارة وأعظم. وقيل المراد بها حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله كما قال تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} الاَية, حكاه القرطبي والرازي ورجحه على الأول, قال لأن أخذ النار في حجارة الكبريت ليس بمستنكر فجعلها هذه الحجارة أولى. وهذا الذي قاله ليس بقوي, وذلك أن النار إذا أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشد لحرها وأقوى لسعيرها ولا سيما على ما ذكره السلف من أنها حجارة من كبريت معدة لذلك, ثم أخذ النار بهذه الحجارة أيضاً مشاهد, وهذا الجص يكون أحجاراً فيعمل فيه بالنار حتى يصير كذلك. وكذلك سائر الأحجار تفخرها النار وتحرقها وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها, وشدة ضرامها وقوة لهبها كما قال تعالى: {كلما خبت زدناهم سعيراً} وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمر ويشتد لهبها قال ليكون ذلك أشد عذاباً لأهلها, قال وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل مؤذ في النار» وهذا الحديث ليس بمحفوظ ولا معروف, ثم قال القرطبي وقد فسر بمعنيين, أحدهما أن كل من آذى الناس دخل النار, والاَخر أن كل ما يؤذي في النار يتأذى به أهلها من السباع والهوام وغير ذلك.

وقوله تعالى: {أعدت للكافرين} الأظهر أن الضمير في أعدت عائد إلى النار التي وقودها الناس والحجارة, ويحتمل عوده إلى الحجارة كما قال ابن مسعود, ولا منافاة بين القولين في المعنى لأنهما متلازمان وأعدت أي رصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله كما قال ابن إسحاق عن محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس {أعدت للكافرين} أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر, وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الاَية على أن النار موجودة الاَن لقوله تعالى: {أعدت} أي أرصدت وهيئت وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها «تحاجت الجنة والنار» ومنها «استأذنت النار ربها فقالت رب أكل بعضي بعضاً فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف» وحديث ابن مسعود سمعنا وجبة فقلنا ما هذه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الاَن وصل إلى قعرها» وهو عند مسلم, وحديث صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى وقد خالفت المعتزلة بجهلهم في هذا ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الأندلس.

(تنبيه ينبغي الوقوف عليه) قوله تعالى: { فأتوا بسورة من مثله} وقوله في سورة يونس: {بسورة مثله} يعم كل سورة في القرآن طويلة كانت أم قصيرة لأنها نكرة في سياق الشرط فتعم كما هي في سياق النفي عن المحققين من الأصوليين كما هو مقرر في موضعه, فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها, وهذا ما لا أعلم فيه نزاعاً بين الناس سلفاً وخلفاً وقد قال الرازي في تفسيره فإن قيل قوله تعالى: {فأتوا بسورة من مثله} يتناول سورة الكوثر وسورة العصر, وقل يا أيها الكافرون ونحن نعلم بالضرورة أن الاتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن فإن قلتم إن الإتيان بمثل هذه السور خارج عن مقدار البشر كان مكابرة والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق بالتهمة إلى الدين (قلنا) فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني وقلنا إن بلغت هذه السور في الفصاحة حد الإعجاز فقد حصل المقصود, وإن لم يكن كذلك, كان امتناعهم من المعارضة مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره معجزاً, فعلى التقديرين يحصل المعجز, هذا لفظه بحروفه والصواب أن كل سورة من القرآن معجزة لا يستطيع البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة قال الشافعي رحمه الله, لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم {والعصر إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} وقد روينا عن عمرو بن العاص أنه وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم, فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم بمكة في هذا الحين ؟ فقال له عمرو: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة فقال وما هي فقال {والعصر إن الإنسان لفي خسر} ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال ولقد أنزل علي مثلها, فقال: وما هو ؟ فقال: يا وبر يا وبر إنما أنت أذنان وصدر, وسائرك حقر فقر, ثم قال كيف ترى يا عمرو ؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني لأعلم أنك تكذب.







** وَبَشّرِ الّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ كُلّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رّزْقاً قَالُواْ هَـَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ





لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به وبرسله من العذاب والنكال, عطف يذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة, وهذا معنى تسمية القرآن مثاني على أصح أقوال العلماء كما سنبسطه في موضعه, وهو أن يذكر الإيمان ويتبع بذكر الكفر أو عكسه أو حال السعداء ثم الأشقياء أو عكسه, وحاصله ذكر الشيء ومقابله. وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه كما سنوضحه إن شاء الله فلهذا قال تعالى: {وبشر الذين أمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار} فوصفها بأنها تجري من تحتها الأنهار أي من تحت أشجارها وغرفها, وقد جاء في الحديث: أن أنهارها تجري في غير أخدود, وجاء في الكوثر أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف, ولا منافاة بينها فطينها المسك الأذفر, وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر, نسأل الله من فضله إنه هو البر الرحيم. وقال ابن أبي حاتم: قرأ على الربيع بن سليمان, حدثنا أسد بن موسى, حدثنا أبو ثوبان عن عطاء بن قرة, عن عبد الله بن ضمرة, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنهار الجنة تفجر تحت تلال أو من تحت جبال المسك» وقال أيضاً حدثنا أبو سعيد حدثنا وكيع عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق, قال: قال عبد الله: أنهار الجنة تفجر من جبل المسك.

وقوله تعالى: {كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل} قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة قالوا هذا الذي رزقنا من قبل, قال إنهم أُتُوا بالثمرة في الجنة فلما نظروا إليها قالوا هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا, وهكذا قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ونصرة بن جرير, وقال عكرمة {قالوا هذا الذي رزقنا من قبل} قال معناه مثل الذي كان بالأمس, وكذا قال الربيع بن أنس. وقال مجاهد يقولون ما أشبهه به قال ابن جرير: وقال آخرون: بل تأويل هذا الذي رزقنا من قبل ثمار الجنة من قبل هذا لشدة مشابهة بعضه بعضاً لقوله تعالى: {وأتوا به متشابهاً} قال سنيد بن داود حدثنا شيخ من أهل المصيصة عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال يؤتى أحدهم بالصفحة من الشيء فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيقول هذا الذي أتينا به من قبل, فتقول الملائكة كُلْ فاللون واحد والطعم مختلف. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا سعيد بن سليمان, حدثنا عامر بن يساف عن يحيى بن أبي كثير, قال عشب الجنة الزعفران وكثبانها المسك, ويطوف عليهم الولدان بالفواكه فيأكلونها, ثم يؤتون بمثلها, فيقول لهم أهل الجنة: هذا الذي أتيتمونا آنفاً به, فتقول لهم الوالدان: كلوا فاللون واحد والطعم مختلف, وهو قول الله تعالى: {وأتوا به متشابهاً} وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية {وأتوا به متشابهاً} قال: يشبه بعضه بعضاً, ويختلف في الطعم, قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد والربيع بن أنس والسدي نحو ذلك وقال ابن جرير بإسناده عن السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة, عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة في قوله تعالى: {وأتوا به متشابهاً} يعني في اللون والمرأى وليس يشتبه في الطعم, وهذا اختيار ابن جرير, وقال عكرمة {وأتوا به متشابهاً} قال يشبه ثمر الدنيا غير أن ثمر الجنة أطيب, وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس لا يشبه شيئاً مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء, وفي رواية: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء, ورواه ابن جرير من رواية الثوري وابن أبي حاتم من حديث أبي معاوية كلاهما عن الأعمش به, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {وأتوا به متشابهاً} قال يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا التفاح بالتفاح والرمان بالرمان, قالوا في الجنة هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا وأتوا به متشابهاً يعرفونه وليس هو مثله في الطعم.

وقوله تعالى: {ولهم فيها أزواج مطهرة} قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: مطهرة من القذر والأذى, وقال مجاهد, من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد, وقال قتادة مطهرة من الأذى والمأثم, وفي رواية عنه لا حيض ولا كلف, وروي عن عطاء والحسن والضحاك وأبي صالح وعطية والسدي نحو ذلك. وقال ابن جرير حدثني يونس بن عبد الأعلى. أنبأنا ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, قال: المطهرة التي لا تحيض, قال وكذلك خلقت حواء عليها السلام, فلما عصت قال الله تعالى: إني خلقتك مطهرة وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة ـ وهذا غريب, وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا إبراهيم بن محمد حدثني حعفر بن محمد بن حرب وأحمد بن محمد الجوري قالا: حدثنا محمد بن عبيد الكندي, حدثنا عبد الرزاق بن عمر البزيعي, حدثنا عبد الله بن المبارك عن شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {ولهم فيها أزواج مطهرة} قال من الحيض والغائط والنخاعة والبزاق. هذا حديث غريب ـ وقد رواه الحاكم في مستدركه عن محمد بن يعقوب بن الحسن بن علي بن عفان عن محمد بن عبيد به, وقال صحيح على شرط الشيخين, وهذا الذي ادعاه فيه نظر, فإن عبد الرزاق بن عمر البزيعي هذا قال فيه أبو حاتم بن حبان البستي: لا يجوز الاحتجاج به (قلت) والأظهر أن هذا من كلام قتادة كما تقدم, والله أعلم.

وقوله تعالى: {وهم فيها خالدون} هذا هو تمام السعادة فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع فلا آخر له ولا انقضاء بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام, والله المسؤول أن يحشرنا في زمرتهم, إنه جواد كريم بر رحيم.

















** إِنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنّهُ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ وَأَمّا الّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللّهُ بِهَـَذَا مَثَلاً يُضِلّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلّ بِهِ إِلاّ الْفَاسِقِينَ * الّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَـَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ





قال السدي في تفسيره عن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين يعني قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} وقوله: {أو كصيب من المساء} الاَيات الثلاث, قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال, فأنزل الله هذه الاَية إلى قوله تعالى: {هم الخاسرون} وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة لما ذكر الله تعالى العنكبوت والذباب, قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران ؟ فأنزل الله {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها} وقال سعيد عن قتادة أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئاً مما قل أو كثر, وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا ؟ فأنزل الله {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها} (قلت) العبارة الأولى عن قتادة فيها إشعار أن هذه الاَية مكية وليس كذلك, وعبارة رواية سعيد عن قتادة أقرب, والله أعلم. وروى ابن جريج عن مجاهد نحو هذا الثاني عن قتادة. وقال ابن أبي حاتم روي عن الحسن وإسماعيل بن أبي خالد نحو قول السدي وقتادة. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في هذه الاَية قال هذا مثل ضربه الله للدنيا أن البعوضة تحيا ما جاعت فإذا سمنت ماتت وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب لهم هذا مثل في القرآن إذا امتلؤوا من الدنيا رياً أخذهم الله عند ذلك ثم تلا: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء} هذا رواه ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية بنحوه فالله أعلم, فهذا اختلافهم في سبب النزول. وقد اختار ابن جرير ما حكاه السدي لأنه أمس بالسورة وهو مناسب, ومعنى الاَية أنه تعالى أخبر أنه لا يستحيي أي لا يستنكف وقيل لا يخشى أن يضرب مثلاً ما, أي: أيّ مثل كان بأي شيء كان صغيراً كان أو كبيراً وما ههنا للتقليل وتكون بعوضة منصوبة على البدل كما تقول لأضربن ضرباً ما, فيصدق بأدنى شيء أو تكون ما نكرة موصوفة ببعوضة, واختار ابن جرير أن ما موصولة وبعوضة معربة بإعرابها, قال وذلك سائغ في كلام العرب أنهم يعربون صلة ما ومن بإعرابهما لأنهما يكونان معرفة تارة ونكرة أخرى كما قال حسان بن ثابت:

يكفي بنا فضلاً على من غيرناحب النبي محمد إيانا







قال ويجوز أن تكون بعوضة منصوبة بحذف الجار, وتقدير الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بين بعوضة إلى ما فوقها, وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء وقرأ الضحاك وإبراهيم بن عبلة بعوضة بالرفع, قال ابن جني وتكون صلة لما وحذف العائد كما في قوله {تماماً على الذي أحسن} أي على الذي هو أحسن, وحكى سيبوبه: ما أنا بالذي قائل لك شيئاً, أي بالذي هو قائل لك شيئاً وقوله تعالى: {فما فوقها} فيه قولان: أحدهما فما دونها في الصغر والحقارة كما إذا وصف رجل باللؤم والشح فيقول السامع نعم وهو فوق ذلك ـ يعني فيما وصفت ـ وهذا قول الكسائي وأبي عبيد قاله الرازي وأكثر المحققين. وفي الحديث «لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة لما سقى كافراً منها شربة ماء» والثاني: فما فوقها لما هو أكبر منها لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة وهذا قول قتادة بن دعامة واختيار ابن جرير, فإنه يؤيده ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة» فأخبر أنه لا يستصغر شيئاً يضرب به مثلاً ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة, كما لا يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف من ضرب المثل بها كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب} وقال: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون} وقال تعالى: {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون * ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار * يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاَخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} وقال تعالى: {ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء} الاَية, ثم قال: {وضرب الله مثلاً رجلين أحدهم أبكم لا يقدر على شيء وهو كَلّ على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل} الاَية, كما قال: {ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم} الاَية. قال: {ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون} الاَية. وقال: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} وفي القرآن أمثال كثيرة, قال بعض السلف: إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي لأن الله قال: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} وقال مجاهد في قوله تعالى: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها} الأمثال صغيرها وكبيرها يؤمن بها المؤمنون ويعلمون أنها الحق من ربهم ويهديهم الله بها. وقال قتادة {فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم} أي يعلمون أنه كلام الرحمن وأنه من عند الله, وروي عن مجاهد والحسن والربيع بن أنس نحو ذلك. وقال أبو العالية {فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم} يعني هذا المثل {وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً} كما قال في سورة المدثر {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيماناً * ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً * كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو} وكذلك قال ههنا {يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين} قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة يضل به كثيراً يعني به المنافقين ويهدي به المؤمنين, فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالتهم لتكذيبهم بما قد علموه حقاً يقيناً من المثل الذي ضربه الله بما ضرب لهم, وأنه لما ضرب له موافق, فذلك إضلال الله إياهم به, ويهدي به يعني المثل كثيراً من أهل الإيمان والتصديق فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيماناً إلى إيمانهم لتصديقهم بما قد علموه حقاً يقيناً أنه موافق لما ضربه الله له مثلاً وإقرارهم به وذلك هداية من الله لهم به {وما يضل به إلا الفاسقين} قال هم المنافقون, وقال أبو العالية {وما يضل به إلا الفاسقين} قال هم أهل النفاق وكذا قال الربيع بن أنس, وقال ابن جريج عن مجاهد عن ابن عباس {وما يضل به إلا الفاسقين} قال يقول يعرفه الكافرون فيكفرون به. وقال قتادة {وما يضل به إلا الفاسقين} فسقوا فأضلهم الله على فسقهم, وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي عن إسحاق بن سليمان عن أبي سنان عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن سعد {يضل به كثيراً} يعني الخوارج. وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد قال سألت أبي فقلت: قوله تعالى {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} إلى آخر الاَية: فقال: هم الحرورية, وهذا الإسناد وإن صح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فهو تفسير على المعنى لا أن الاَية أريد منها التنصيص على الخوارج الذين خرجوا على عليّ بالنهروان, فإن أولئك لم يكونوا حال نزول الاَية وإنما هم داخلون بوصفهم فيها مع من دخل لأنهم سموا خوارج لخروجهم عن طاعة الإمام والقيام بشرائع الإسلام, والفاسق في اللغة هو الخارج عن الطاعة أيضاً, وتقول العرب فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها, ولهذا يقال للفأرة فويسقة لخروجها عن حجرها للفساد, وثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور» فالفاسق يشمل الكافر والعاصي, ولكن فسق الكافر أشد وأفحش, والمراد به من الاَية الفاسق الكافر, والله أعلم بدليل أنه وصفهم بقوله تعالى {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون} وهذه الصفات صفات الكفار المبانية لصفات المؤمنين كما قال تعالى في سورة الرعد {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ؟ إنما يتذكر أول الألباب * الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق * والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب} الاَيات, إلى أن قال {والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار} وقد اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه, فقال بعضهم هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم عما أمرهم به من طاعته ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه وعلى لسان رسله, ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://domoo3.own0.com/
RoMa
Admin
RoMa


عدد المساهمات : 1980
نقاط : 6051
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 04/09/2011
العمر : 29
الموقع : دموع عيون حبيبى

تفسير سورة البقرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة   تفسير سورة البقرة I_icon_minitimeالأحد أكتوبر 30, 2011 11:07 pm

وقال آخرون بل هي في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم, وعهد الله الذي نقضوه هو ما أخذ الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم, ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته وإنكارهم ذلك وكتمانهم علم ذلك عن الناس بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه, فأخبر تعالى أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً. وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله وهو قول مقاتل بن حيان.
وقال آخرون بل عنى بهذه الاَية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق وعهده إلى جميعهم في توحيده ما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته وعهد إليهم في أمره ونهيه ما حتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثله, الشاهدة لهم على صدقهم, قالوا ونقضهم ذلك تركهم الإقرار بما قد تبينت لهم صحته بالأدلة, وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق. وروي عن مقاتل بن حيان أيضاً نحو هذا وهو حسن, وإليه مال الزمخشري فإنه قال, فإن قلت: فما المراد بعهد الله ؟ قلت: ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد كأنه أمرٌ وصّاهم به ووثقه عليهم, وهو معنى قوله تعالى {وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} إذ أخذ الميثاق عليهم من الكتب المنزلة عليهم كقوله {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} وقال آخرون: العهد الذي ذكره تعالى هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم الذي وصف في قوله {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم
ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا} الاَيتين, ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به, وهكذا روي عن مقاتل بن حيان أيضاً, حكى هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ـ إلى قوله ـ أولئك هم الخاسرون} قال هي ست خصال من المنافقين إذا كانت فيهم الظهرة على الناس أظهروا هذه الخصال, إذا حدثوا كذبوا, وإذا وعدوا أخلفوا, وإذا اؤتمنوا خانوا, ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه, وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل, وأفسدوا في الأرض, وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الخصال الثلاث: إذا حدثوا كذبوا, وإذا وعدوا أخلفوا, وإذا اؤتمنوا خانوا. وكذا قال الربيع بن أنس أيضاً, وقال السدي في تفسيره بإسناده قوله تعالى {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} قال: هو ما عهد إليهم في القرآن, فأقروا به ثم كفروا فنقضوه.
وقوله: {ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل} قيل المراد به صلة الأرحام والقرابات كما فسره قتادة كقوله تعالى {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} ورجحه ابن جرير, وقيل المراد أعم من ذلك فكل ما أمر الله بوصله وفعله فقطعوه وتركوه. وقال مقاتل بن حيان في قوله تعالى: {أولئك هم الخاسرون} قال في الاَخرة, وهذا كما قال تعالى: {أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار} وقال الضحاك عن ابن عباس كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل خاسر فإنما يعني به الكفر, وما نسبه إلى أهل الاسلام, فإنما يعني به الذنب. وقال ابن جرير في قوله تعالى {أولئك هم الخاسرون} الخاسرون جمع خاسر وهم الناقصون أنفسهم حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه وكذلك المنافق والكافر خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته, يقال منه خسر الرجل يخسر الرجل يخسر خسراً وخساراً كما قال جرير بن عطية:
إن سليطاً في الخسار إنهأولاد قوم خلقوا أقنه)



** كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ ثُمّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
يقول تعالى محتجاً على وجوده وقدرته وأنه الخالق المتصرف في عباده {كيف تكفرون بالله} أي كيف تجحدون وجوده أو تعبدون معه غيره {وكنتم أمواتاً فأحياكم} أي وقد كنتم عدماً فأخرجكم إلى الوجود كما قال تعالى {أم خلقوا من شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السموات والأرض * بل لا يوقنون} وقال تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً} والاَيات في هذا كثيرة, وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه {قالوا ربنا أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا} قال هي التي في البقرة {وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم} وقال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس: كنتم أمواتاً فأحياكم: أمواتاً في أصلاب آبائكم لم تكونوا شيئاً حتى خلقكم ثم يميتكم موتة الحق ثم يحييكم حين يبعثكم, قال وهي مثل قوله تعالى: {أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى {ربنا أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} قال كنتم تراباً قبل أن يخلقكم, فهذه ميتة, ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة, ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى, ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى, فهذه ميتتان وحياتان فهو كقوله {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم} وهكذا روي عن السدي بسنده عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة وعن أبي العالية والحسن ومجاهد وقتادة وأبي صالح والضحاك وعطاء الخراساني نحو ذلك, وقال الثوري عن السدي عن أبي صالح {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون} قال: يحييكم في القبر ثم يميتكم, وقال ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: خلقهم في ظهر آدم ثم أخذ عليهم الميثاق ثم أماتهم ثم خلقهم في الأرحام ثم أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة. وذلك كقوله تعالى {قالوا ربنا أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} وهذا غريب والذي قبله. والصحيح ما تقدم عن ابن مسعود وابن عباس وأولئك الجماعة من التابعين وهو كقوله تعالى {قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه} الاَية, كما قال تعالى في الأصنام {أموات غير أحياء وما يشعرون} الاَية وقال: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون}.


** هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ مّا فِي الأرْضِ جَمِيعاً ثُمّ اسْتَوَىَ إِلَى السّمَآءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
لما ذكر تعالى دلالة من خلقهم وما يشاهدونه من أنفسهم ذكر دليلاً آخر مما يشاهدونه من خلق السموات والأرض فقال {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات} أي قصد إلى السماء. والاستواء ههنا مضمن معنى القصد والإقبال, لأنه عدّي بإلى فسواهن أي فخلق السماء سبعاً, والسماء ههنا اسم جنس فلهذا قال {فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم} أي وعلمه محيط بجميع ما خلق, كما قال: {ألا يعلم من خلق} وتفصيل هذه الاَية في سورة حم السجدة وهو قوله تعالى {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم} ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولاً ثم خلق السموات سبعاً, وهذا شأن البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك, وقد صرح المفسرون بذلك كما سنذكره بعد هذا إن شاء الله. فأما قوله تعالى {أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها * متاعاً لكم ولأنعامكم} فقد قيل إن ثم ههنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر لا لعطف الفعل على الفعل, كما قال الشاعر:
قل لمن ساد ثم ساد أبوهثم قد ساد قبل ذلك جده

وقيل إنّ الدحي كان بعد خلق السموات, رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس, وقد قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم} قال إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئاً غير ما خلق قبل الماء, فلما أراد أن يخلق أخرج من الماء دخاناً فارتفع فوق الماء فسما عليه فسماه سماء ثم أيبس الماء فجعله أرضاً واحدة ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في الأحد والاثنين فخلق الأرض على حوت, والحوت هو الذي ذكره الله في القرآن {ن والقلم} والحوت في الماء والماء على ظهر صفاة والصفاة على ظهر ملك والملك على صخرة والصخرة في الريح, وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض, فتحرك الحوت فاضطرب فتزلزلت الأرض فأرسى عليها الجبال فقرت فالجبال تفخر على الأرض فذلك قوله تعالى {وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم} وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين في الثلاثاء والأربعاء وذلك حين يقول {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها} يقول أنبت شجرها {وقدر فيها أقواتها} لأهلها {في أربعة أيام سواء للسائلين} يقول من سأل فهكذا الأمر {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} وذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس فجعلها سماء واحدة ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين في الخميس والجمعة, إنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض وأوحى في كل سماء أمرها قال خلق الله في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار والجبال والبرد ومما لا يُعلم, ثم زين السماء الدنيا بالكواكب فجعلها زينة حفظاً تحفظ من الشياطين, فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش فذلك حيث يقول {خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} ويقول {كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي} وقال ابن جرير حدثني المثنى حدثنا عبد الله بن صالح حدثني أبو معشر عن سعيد بن أبي سعيد عن عبد الله بن سلام أنه قال: إن الله بدأ الخلق يوم الأحد فخلق الأرضين في الأحد والاثنين, وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء, وخلق السموات في الخميس والجمعة, وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق فيها آدم على عجل, فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة.
وقال مجاهد في قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} قال خلق الله الأرض قبل السماء فلما خلق الأرض ثار منها دخان فذلك حين يقول: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسواهن سبع السموات} قال: بعضهن فوق بعض وسبع أرضين يعني بعضها تحت بعض, وهذه الاَية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء كما قال في سورة السجدة: {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أم كرهاً قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سموات في ويومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا المساء الدنيا بمصابيح وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم} فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء, وهذا ما لا أعلم فيه نزاعاً بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض, وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: {أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها, والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها} قالوا: فذكر خلق السماء قبل الأرض وفي صحيح البخاري أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء, وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديماً وحديثاً, وقد حررنا ذلك في سورة النازعات وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله تعالى: {والأرض بعد ذلك دخاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها} ففسر الدحي بإخرج ما كان مودعاً فيها بالقوة إلى الفعل لما أكملت صورة المخلوقات الأرضية ثم السماوية دحى بعد ذلك الأرض فأخرجت ما كان مودعاً فيها من المياه فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها, وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة, والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسير هذه الاَية الحديث الذي رواه مسلم والنسائي في التفيسر أيضاً من رواية ابن جريح, قال أخبرني إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع مولى أم سملة عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: «خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر فيها يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل» وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم, وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ وجعلوه من كلام كعب, وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار, وإنما اشتبه على بعض الرواة, فجعلوه مرفوعاً, وقد حرر ذلك البيهقي.


** وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إِنّيَ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم, فقال تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة} أي واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة واقصص على قومك ذلك, وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية وهو أبو عبيدة أنه زعم أن إذ ههنا زائدة وأن تقدير الكلام وقال ربك, وردّه ابن جرير, قال القرطبي وكذا رده جميع المفسرين حتى قال الزجاج هذا اجتراء من أبي عبيدة {إني جاعل في الأرض خليقة} أي قوماً يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل كما قال تعالى: {هو الذي جعلكم خلائف الأرض} قال: {ويجعلكم خلفاء الأرض} وقال: {ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون} وقال: {فخلف من بعدهم خلف} وقرى في الشاذ: {إني جاعل في الأرض خليقة} حكاها الزمخشري وغيره, ونقل القرطبي عن زيد بن علي وليس المراد ههنا بالخليفة آدم عليه السلام فقط كما يقوله طائفة من المفسرين, وعزاه القرطبي إلى ابن عباس وابن مسعود وجميع أهل التأويل وفي ذلك نظر بل الخلاف في ذلك كثير حكاه الرازي في تفسيره وغيره والظاهر أنه لم يرد آدم عيناً إذ لو كان ذلك لما حسن قول الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} فإنهم أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص أو بما فهموه من الطبيعة البشرية, فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمإ مسنون أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم ويردعهم عن المحارم والمآثم, قاله القرطبي: أو أنهم قاسوهم على من سبق كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك, وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ولا على وجه الحسد لبني آدم كما قد يتوهمه بعض المفسرين, وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول أي لا يسألونه شيئاً لم يأذن لهم فيه, وههنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقاً, قال قتادة: وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها, فقالوا: {أتجعل قيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} الاَية, وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك يقولون: يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء, فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك أي نصلي لك كما سيأتي. أي ولا يصدر منا شيء من ذلك, وهلا وقع الاقتصار علينا ؟ قال الله تعالى مجيباً لهم عن هذا السؤال: {إني أعلم مالا تعلمون} أي إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها مالا تعلمون أنتم فإني جاعل فيهم الأنبياء وأرسل فيهم الرسل ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء والعاملون والخاشعون والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم, وقد ثبت في الصحيح أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده يسألهم وهو أعلم: كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون. وذلك لأنهم يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر, فيمكث هؤلاء ويصعد أولئك بالأعمال كما قال عليه الصلاة والسلام: «يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل» فقولهم: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم هم يصلون من تفسير قوله لهم: {إني أعلم ما لا تعلمون}, وقيل معنى قوله تعالى جواباً لهم: {إني أعلم ما لا تعلمون} إني لي حكمة مفصلة في خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها, قيل إنه جواب {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} فقال: {إني أعلم ما لا تعلمون} أي من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به. وقيل بل تضمن قولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} طلباً منهم أن يسكنوا الأرض بدل بن آدم, فقال الله تعالى لهم: {إني أعلم ما لا تعلمون} من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم. ذكرها الرازي مع غيرها من الأجوبة, والله أعلم.

ذكر أقوال المفسرين ببسط ما ذكرناه
قال ابن جرير: حدثني القاسم بن الحسن قال: حدثنا الحسين قال: حدثني الحجاج عن جرير بن حازم ومبارك عن الحسن وأبي بكر عن الحسن وقتادة قالوا: قال الله للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة, قال لهم إني فاعل وهذا معناه أنه أخبرهم بذلك, وقال السدي استشار الملائكة في خلق آدم, رواه ابن أبي حاتم قال: وروي عن قتادة نحوه وهذه العبارة إن لم ترجع إلى معنى الإخبار ففيها تساهل, وعبارة الحسن وقتادة في رواية ابن جرير أحسن والله أعلم {في الأرض}. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد حدثنا عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن سابط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {دحيت الأرض من مكة وأول من طاف بالبيت الملائكة. فقال الله: إني جاعل في الأرض خليفة يعني مكة} وهذا مرسل, وفي سنده ضعف وفيه مدرج وهو أن المراد بالأرض مكة, والله أعلم, فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك {خليفة} قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة أن الله تعالى قال للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة. قالوا: ربنا وما يكون ذاك الخليفة ؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً. قال ابن جرير: فكان تأويل الاَية على هذا إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بالعدل بين خلقي وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه, وأما الافساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه: قال ابن جرير وإنما معنى الخلافة التي ذكرها الله, إنما هي خلافة قرن منهم قرناً, قال: والخليفة الفعيلة من قولك خلف فلان فلاناً في هذا الأمر إذا قام مقامه فيه بعده كما قال تعالى: {ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون}, ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم خليفة لأنه خلف الذي كان قبله فقام بالأمر فكان منه خلفاً, قال: وكان محمد بن إسحاق يقول في قوله تعالى: {إني جاعل في الأرض خليفة}, يقول ساكناً وعامراً يعمرها ويسكنها خلقاً ليس منكم. قال ابن جرير: وحدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال: إن أول من سكن الأرض الجن, فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضاً, قال فبعث الله إليهم إبليس فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال, ثم خلق فأسكنه إياها, فلذلك قال: {إني جاعل في الأرض خليفة}. وقال سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن ابن سابط: {إني جاعل في الأرض خليفة, قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} قال: يعنون به بني آدم, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال الله للملائكة: إني أريد أن أخلق في الأرض خلقاً وأجعل فيها خليفة وليس لله عز وجل خلق إلا الملائكة والأرض وليس فيها خلق, قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها. وقد تقدم ما رواه السدي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة: أن الله أعلم الملائكة بما تفعله ذرية آدم فقالت الملائكة ذلك, وتقدم آنفاً ما رواه الضحاك عن ابن عباس أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم, فقالت الملائكة ذلك فقاسوا هؤلاء بأولئك. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن بكر بن الأخنس عن مجاهد عن عبد الله بن عمر, قال: كان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة, فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء فبعث الله جنداً من الملائكة فضربوهم حتى ألحقوا بجزائر البحور فقال الله للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة, قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {إني جاعل في الأرض خليفة ـ إلى قوله ـ وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} قال خلق الله الملائكة يوم الأربعاء وخلق الجن يوم الخميس وخلق آدم يوم الجمعة, فكفر قوم من الجن فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ببغيهم, وكان الفساد في الأرض, فمن ثم قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها كما أفسدت الجن ويسفك الدماء كما سفكوا, قال ابن أبي حاتم وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا مبارك بن فضالة حدثنا الحسن قال: قال الله للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة, قال لهم إني فاعل فآمنوا بربهم فعلمهم علماً وطوى علماً علمه ولم يعلموه, فقالوا بالعلم الذي علمهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون. قال الحسن: إن الجن كانوا في الأرض يفسدون ويسفكون الدماء, ولكن جعل الله في قلوبهم أن ذلك سيكون, فقالوا بالقول الذي علمهم. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {أتجعل فيها من يفسد فيها} كان الله أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء, فذلك حين قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام الرازي حدثنا ابن المبارك عن معروف يعني ابن خربوذ المكي عمن سمع أبا جعفر محمد بن علي يقول السجل ملك, وكان هاروت وماروت من أعوانه, وكان له في كل يوم ثلاث لمحات في أم الكتاب, فنظر نظرة لم تكن له فأبصر فيها خلق آدم وما كان فيه من الأمور فأسر إلى هاروت وماروت وكانا في أعوانه قلما قال تعالى, {إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}. قال ذلك استطالة على الملائكة. وهذا أثر غريب وبتقدير صحته إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين الباقر فهو نقله عن أهل الكتاب, وفيه نكارة توجب رده, والله أعلم, ومقتضاه أن الذين قالوا ذلك إنما كانوا اثنين فقط, وهو خلاف السياق وأغرب منه ما رواه ابن أبي حاتم أيضاً حيث قال: حدثنا أبي حدثنا هشام بن أبي عبيد الله حدثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير قال: سمعت أبي يقول إن الملائكة الذين قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} كانوا عشرة آلاف فخرجت نار من عند الله فأحرقتهم, وهذا أيضاً إسرائيلي منكر كالذي قبله, والله أعلم. قال ابن جريج وإنما تكلموا بما أعلمهم الله أنه كائن من خلق آدم فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء وقال ابن جرير وقال بعضهم إنما قالت الملائكة ما قالت أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء لأن الله أذن لهم في السؤال عن ذلك بعد ما أخبرهم أن ذلك كائن من بني آدم, فسألته الملائكة فقالت على التعجب منها: وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم ؟ فأجابهم ربهم {إني أعلم ما لا تعلمون} يعني أن ذلك كائن منهم وإن لم تعلموه أنتم, ومن بعض ما ترونه لي طائعاً قال: وقال بعضهم ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموه من ذلك, فكأنهم قالوا يا رب خبرنا ـ مسألة استخبار منهم لا على وجه الإنكار ـ واختاره ابن جرير, وقال سعيد عن قتادة قوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} قال استشار الملائكة في خلق آدم, فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ـ وقد علمت الملائكة أنه لا شيء أكره عند الله من سفك الدماء والفساد في الأرض ـ ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك, قال إني أعلم ما لا تعلمون فكان في علم الله أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة, قال وذكر لنا عن ابن عباس أنه كان يقول: إن الله لما أخذ في خلق آدم عليه السلام قالت الملائكة ما الله خالق خلقاً أكرم عليه منا ولا أعلم منا فابتلوا بخلق آدم, وكل خلق مبتلى كما ابتليت السموات والأرض بالطاعة فقال الله تعالى: {ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} وقوله تعالى: {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة, قال: التسبيح التسبيح والتقديس الصلاة, وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة ونحن نسبح بحمد ونقدس لك قال يقولون نصلي لك, وقال مجاهد ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك, قال نعظمك ونكبرك, وقال الضحاك التقديس التطهير, وقال محمد بن إسحاق ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك, قال: لا نعصي ولا نأتي شيئاً تكرهه. وقال ابن جرير التقديس هو التعظيم والتطهير. ومنه قولهم سبوح قدوس يعني بقولهم سبوح تنزيه له, وبقولهم قدوس طهارة وتعظيم له, وكذلك قيل للأرض أرض مقدسة يعني بذلك المطهرة, فمعنى قول الملائكة إذاً {ونحن نسبح بحمدك} ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك {ونقدس لك} ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل ؟ قال: «ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده» وروى البيهقي عن عبدالرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحاً في السموات العلا «سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى» {قال إني أعلم ما لا تعلمون} قال قتادة فكان في علم الله أنه سيكون في تلك الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة. وسيأتي عن ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من الصحابة والتابعين أقول في حكمة قوله تعالى: {قال إني أعلم ما لا تعملون}.
وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الاَية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ويقطع تنازعهم وينتصر لمظلوهم من ظالمهم ويقيم الحدود ويزجر عن تعاطي الفواحش إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا تمكن إقامتها إلا بالإمام وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنة في أبي بكر, أو بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم, أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بعمر بن الخطاب أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر, أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعته واحد منهم له فيجب التزامها عند الجمهور وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع. والله أعلم. أو بقهر واحد الناس على طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف. وقد نص عليه الشافعي وهل يجب الإشهاد على عقد الإمام ؟ فيه خلاف, فمنهم من قال لا يشترط وقيل بلى ويكفي شاهدان, وقال الجبائي يجب أربعة وعاقد ومعقود له, كما ترك عمر رضي الله عنه الأمر شورى بين ستة فوقع الأمر على عاقد وهو عبد الرحمن بن عوف, ومعقود له وهو عثمان, واستنبط وجوب الأربعة الشهود من الأربعة الباقين وفي هذا نظر, والله أعلم.
ويجب أن يكون ذكراً حراً بالغاً عاقلاً مسلماً عدلاً مجتهداً بصيراً خبيراً سليم الأعضاء بالحروب والاَراء قرشياً على الصحيح ولا يشترط الهاشمي ولا المعصوم من الخطأ خلافاً للغلاة الروافض, ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا ؟ فيه خلاف, والصحيح أنه لا ينعزل لقوله عليه الصلاة السلام, «إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان» وهل له أن يعزل نفسه فيه خلاف, وقد عزل الحسن بن علي رضي الله عنه نفسه وسلم الأمر إلى معاوية لكن هذا لعذر وقد مدح على ذلك, فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام «من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائناً من كان» وهذا قول الجمهور, وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد منهم إمام الحرمين, وقالت الكرامية يجوز اثنان فأكثر كما كان علي و معاوية إمامين واجبي الطاعة, قالوا وإذا جاز بعث نبيين في وقت واحد وأكثر جاز ذلك في الإمام لأن النبوة أعلى رتبة بلا خلاف, وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما, وتردد إمام الحرمين في ذلك, قلت وهذا يشبه حال الخلفاء بني العباس بالعراق والفاطميين بمصر والأمويين بالمغرب ولنقرر هذا كله في موضع آخر من كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى.


** وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَآءَ كُلّهَا ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـَؤُلآءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاّ مَا عَلّمْتَنَآ إِنّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَاآدَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لّكُمْ إِنِيَ أَعْلَمُ غَيْبَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة بما اختصه من علم أسماء كل شيء دونهم وهذا كان بعد سجودهم له,وإنما قدم هذا الفصل على ذلك لمناسبة ما بين المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة حين سألوا عن ذلك, فأخبرهم تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون, ولهذا ذكر الله هذا المقام عقيب هذا ليبين لهم شرف آدم بما فضل به عليهم في العلم فقال تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} قال السدي عمن حدثه عن ابن عباس {وعلم آدم الأسماء كلها} قال: علمه أسماء ولده إنساناً إنساناً والدواب فقيل: هذا الحمار, هذا الجمل, هذا الفرس, وقال الضحاك عن ابن عباس {وعلم آدم الأسماء كلها} قال: هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس إنسان ودابة وسماء وأرض وسهل وبحر وخيل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها, وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث عاصم بن كليب عن سعيد بن معبد عن ابن عباس {وعلم آدم الأسماء كلها} قال علمه اسم الصحفة والقدر, قال نعم حتى الفسوة والفسية, وقال مجاهد {وعلم آدم الأسماء كلها} قال علمه اسم كل دابة وكل طير وكل شيء, كذلك روي عن سعيد بن جبير وقتادة وغيرهم من السلف أنه علمه أسماء كل شيء, وقال الربيع في رواية عن أسماء الملائكة. وقال حميد الشامي أسماء النجوم. وقال عبد الرحمن بن زيد علمه أسماء ذريته كلهم, واختار ابن جرير أنه علمه أسماء الملائكة وأسماء الذرية لأنه قال {ثم عرضهم} وهذا عبارة عما يعقل وهذا الذي رجح به ليس بلازم, فإنه لا ينفي أن يدخل معهم غيرهم, ويعبر عن الجميع بصيغة من يعقل للتغليب كما قال تعالى {والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير} وقد قرأ عبد الله بن مسعود ثم عرضهن, وقرأ أبي بن كعب ثم عرضها أي المسميات. والصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها ذواتها وصفاتها وأفعالها كما قال ابن عباس حتى الفسوة والفسية يعني أسماء الذوات والأفعال المكبر والمصغر, ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الاَية في كتاب التفسير من صحيحه: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا, فيقول لست هناكم, ويذكر ذنبه فيستحي. ائتوا نوحاً فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتونه فيقول لست هناكم, ويذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم فيستحي. فيقول ائتوا خليل الرحمن, فيأتونه فيقول لست هناكم, فيقول ائتوا موسى عبداً كلمه الله وأعطاه التوراة فيقول لست هناكم. فيذكر قتل النفس بغير نفس فيستحي من ربه. فيقول ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمة الله وروحه فيأتونه فيقول لست هناكم ائتوا محمداً عبداً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتوني فأنطلق حتى أستأذن على ربي فيأذن لي فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً فيدعني ما شاء الله ثم يقال: ارفع رأسك وسل تعطه وقل يسمع واشفع تشفع, فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ثم أعود إليه فإذا رأيت ربي مثله ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ثم أعود الثالثة ثم أعود الرابعة فأقول ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود» هكذا ساق البخاري هذا الحديث ههنا, وقد رواه مسلم والنسائي من حديث هشام وهو ابن أبي عبد الله الدستوائي عن قتادة به, وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث سعيد وهو ابن أبي عروبة عن قتادة, ووجه إيراده ههنا, والمقصود منه قوله عليه الصلاة والسلام فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء. فدل هذا على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات, ولهذا قال {ثم عرضهم على الملائكة} يعني المسميات كما قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة, قال ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة {فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة {وعلم آدم الأسماء كلها} ثم عرض الخلق على الملائكة, وقال ابن جريج عن مجاهد ثم عرض أصحاب الأسماء على الملائكة, وقال ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثني الحجاج عن جرير بن حازم ومبارك بن فضالة عن الحسن وأبي بكر عن الحسن وقتادة قالا: علمه اسم كل شيء, وجعل يسمي كل شيء باسمه وعرضت عليه أمة أمة, وبهذا الإسناد عن الحسن وقتادة في قوله تعالى: {إن كنتم صادقين} إني لم أخلق خلقاً إلا كنتم أعلم منه فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين, وقال الضحاك عن ابن عباس {إن كنتم صادقين} إن كنتم تعلمون أني لم أجعل في الأرض خليفة, وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء, وقال ابن جرير وأولى الأقوال في ذلك تأويل ابن عباس ومن قال بقوله, ومعنى ذلك فقال أنبئوني بأسماء من عرضته عليكم أيها الملائكة القائلون أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء. من غيرنا أم منا فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك. إن كنتم صادقين في قيلكم إني إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عصاني وذريته وأفسدوا وسفكوا الدماء وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس, فإذا كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضت عليكم وأنتم تشاهدونهم فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد أحرى أن تكونوا غير عالمين {قالوا سبحانك لا علم لنا إلاَ ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} هذا تقديس وتنزيه من الملائكة لله تعالى أن يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء وأن يعلموا شيئاً إلا ما علمهم الله تعالى ولهذا قالوا {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} أي العليم بكل شيء الحكيم في خلقك وأمرك وفي تعليمك من تشاء ومنعك من تشاء لك الحكمة في ذلك والعدل التام. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا حفص بن غياث عن حجاج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس: سبحان الله, قال تنزيه الله نفسه عن السوء, ثم قال عمر لعلي وأصحابه عنده لا إله إلا الله قد عرفناه, فما سبحان الله ؟ فقال لي علي: كلمة أحبها الله لنفسه ورضيها وأحب أن تقال, قال: وحدثنا أبي حدثنا ابن نفيل حدثنا النضر بن عربي قال: سأل رجل ميمون بن مهران عن سبحان الله, قال: اسم يعظم الله به, ويحاشى به من السوء.
قوله تعالى: {قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} قال زيد بن أسلم قال أنت جبرائيل أنت ميكائيل أنت إسرافيل حتى عدد الأسماء كلها حتى بلغ الغراب, وقال مجاهد في قول الله {قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم} قال اسم الحمامة والغراب واسم كل شيء, وروي عن سعيد بن جبير والحسن وقتادة نحو ذلك, فلما ظهر آدم عليه السلام على الملائكة عليهم السلام في سرده ما علمه الله تعالى من أسماء الأشياء, قال الله تعالى للملائكة {ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} أي ألم أتقدم إليكم إني أعلم الغيب الظاهر والخفي كما قال تعالى {وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى} وكما قال إخباراً عن الهدهد أنه قال لسليمان {ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون * الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم} وقيل في قوله تعالى: {وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} غير ما ذكرناه, فروى الضحاك عن ابن عباس {وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} قال يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار, وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة قال قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء الاَية, فهذا الذي أبدوا {وما كنتم تكتمون} يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر وكذلك قال سعيد بن جبير ومجاهد والسدي والضحاك الثوري. واختار ذلك ابن جرير وقال أبو العالية والربيع بن أنس والحسن وقتادة هو قولهم لم يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه, وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس {وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} فكان الذي أبدوا هو قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء, وكان الذي كتموا بينهم هو قولهم لن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم, فعرفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم والكرم, وقال ابن جرير: حدثنا يونس حدثنا ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قصة الملائكة وآدم, فقال الله للملائكة: كما لم تعلموا هذه الأسماء فليس لكم علم إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها, هذا عندي قد علمته ولذلك أخفيت عنكم أني أجعل فيها من يعصيني ومن يطيعني, قال وقد سبق من الله {لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} قال: ولم تعلم الملائكة ذلك ولم يدروه, فقال: فلما رأوا ما أعطى الله آدم من العلم أقروا له بالفضل. وقال ابن جرير وأولى الأقوال في ذلك قول ابن عباس وهو أن معنى قوله تعالى: {وأعلم ما تبدون} وأعلم مع علمي غيب السموات والأرض وما تظهرونه بألسنتكم وما كنتم تخفون في أنفسكم, فلا يخفى علي أي شيء سواء عندي سرائركم وعلانيتكم والذي أظهروه بألسنتهم قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها, والذي كانوا يكتمون ما كان عليه منطوياً إبليس من الخلاف على الله في أوامره والتكبر عن طاعته, قال: وصح ذلك كما تقول العرب قتل الجيش وهزموا, وإنما قتل الواحد أو البعض وهزم الواحد أو البعض, فيخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر عن جميعهم كما قال تعالى: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات} ذكر أن الذي نادى إنما كان واحداً من بني تميم, قال وكذلك قوله {وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون}.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://domoo3.own0.com/
RoMa
Admin
RoMa


عدد المساهمات : 1980
نقاط : 6051
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 04/09/2011
العمر : 29
الموقع : دموع عيون حبيبى

تفسير سورة البقرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة   تفسير سورة البقرة I_icon_minitimeالأحد أكتوبر 30, 2011 11:08 pm

** وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَىَ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ
وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لاَدم امتن بها على ذريته حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لاَدم, وقد دل على ذلك أحاديث أيضاً كثيرة منها حديث الشفاعة المتقدم, وحديث موسى عليه السلام «رب أرني آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة, فلما اجتمع به قال أنت آدم الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته» وقال وذكر الحديث كما سيأتي إن شاء الله. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا عثمان بن سعيد, حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس, قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن, خلقوا من نار السموم من بين الملائكة, وكان اسمه الحارث, وكان خازناً من خزان الجنة, قال: وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي, قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار وهو لسان النار الذي يكون فيه طرفها إذا ألهبت, قال: وخلق الانسان من طين, فأول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها, وسفكوا الدماء, وقتل بعضهم بعضاً, قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة وهم هذا الحي الذي يقال لهم الجن فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال فلما فعل إبليس ذلك اغتر في نفسه, فقال: قد صنعت شيئاً لم يصنعه أحد, قال: فاطلع الله على ذلك من قلبه ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه فقال الله للملائكة الذين كانوا معه: {إني جاعل في الأرض خليفة}. فقالت الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء كما أفسدت الجن وسفكت الدماء, وإنما بعثتنا عليهم لذلك ؟ فقال الله تعالى. {إني أعلم ما لا تعلمون} يقول إني اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه, من كبره واغتراره, قال: ثم أمر بتربة آدم فرفعت, فخلق الله آدم من طين لازب, واللازب اللازج الصلب من حمأٍ مسنون منتن, وإنما كان حمأ مسنوناً بعد التراب, فخلق منه آدم بيده, قال: فمكث أربعين ليلة جسداً ملقى, وكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل فيصوت, فهو قول الله تعالى {من صلصال كالفخار} يقول كالشيء المنفرج الذي ليس بمصمت, قال: ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره, ويخرج من فيه, ثم يقول لست شيئاً للصلصلة ولشيء ما خلقت, ولئن سلطت عليك لأهلكنك, ولئن سلطت عليّ لأعصينك, قال: فلما نفخ الله فيه روحه أتت النفخة من قبل رأسه فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحماً ودماً, فلما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من جسده فذهب لينهض فلم يقدر, فهو قول الله تعالى {وخلق الإنسان عجولاً} قال ضجراً لا صبر له على سراء ولا ضراء قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس فقال {الحمد لله رب العالمين} بإلهام الله, فقال الله له «يرحمك الله يا آدم» قال: ثم قال تعالى للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات. اسجدوا لاَدم فسجدوا كلهم إلا إبليس أبى واستكبر لما كان حدث نفسه من الكبر والاغترار, فقال: لا أسجد له وأنا خير منه وأكبر سناً وأقوى خلقاً, خلقتني من نار وخلقته من طين, يقول إن النار أقوى من الطين, قال: فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله, أي آيسه من الخير كله وجعله شيطاناً رجيماً عقوبة لمعصيته, ثم علم آدم الأسماء كلها وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار وأشبه ذلك من الأمم وغيرها ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة يعني الملائكة الذين كانوا مع إبليس الذين خلقوا من نار السموم, وقال لهم {أنبئوني بأسماء هؤلاء} أي يقول أخبروني بأسماء هؤلاء {إن كنتم صادقين} إن كنتم تعلمون, لم أجعل في الأرض خليفة, قال: فلما علمت الملائكة موجدة الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب الذي لا يعلمه غيره الذي ليس لهم به علم {قالوا سبحانك} تنزيهاً لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره تبنا إليك {لا علم لنا إلا ما علمتنا} تبرياً منهم من علم الغيب إلا ما علمتنا كما علمت آدم فقال {يا آدم أنبئهم بأسمائهم} يقول أخبرهم بأسمائهم {فلما أنبأهم بأسمائهم, قال: ألم أقل لكم} أيها الملائكة خاصة {إني أعلم غيب السموات والأرض} ولا يعلم غيري {وأعلم ما تبدون} يقول ما تظهرون {وما كنتم تكتمون} يقول أعلم السر كما أعلم العلانية, يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار, هذا سياق غريب وفيه أشياء فيها نظر يطول مناقشتها وهذا الإسناد إلى ابن عباس يروى به تفسير مشهور, وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس وعن مرة, عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش. فجعل إبليس على ملك السماء الدنيا, وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن, وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة, وكان إبليس مع ملكه خازناً فوقع في صدره الكبر وقال ما أعطاني الله هذا إلا لميزة لي على الملائكة, فلما وقع ذلك الكبر في نفسه اطلع الله على ذلك منه, فقال الله للملائكة {إني جاعل في الأرض خليفة} فقالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة ؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً, قالوا: {ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها, ويسفك الدماء, ونحن نسبحّ بحمدك ونقدس لك ؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون} يعني من شأن إبليس فبعث الله جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها, فقالت الأرض: إني أعوذ با لله منك أن تنقص مني أو تشينني, فرجع ولم يأخذ, وقال: يا رب إنها عاذت بك فأعذتها, فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها, فرجع فقال كما قال جبريل, فبعث ملك الموت فعاذت منه فقال وأنا أعوذ با لله أو أرجع ولم أنفذ أمره, فأخذ من وجه الأرض وخلط ولم يأخذ من مكان واحد وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء فلذلك خرج بنو آدم مختلفين فصعد به فبل التراب حتى عاد طيناً لازباً, واللازب هو الذي يلتزق بعضه ببعض, ثم قال للملائكة {إني خالق بشراً من طين * فإذا سويته ونفخت فيه روحي فقعوا له ساجدين} فخلقه الله بيده لئلا يتكبر إبليس عنه ليقول له تتكبر عما عملت بيدي ولم أتكبر أنا عنه بخلقه بشراً, فكان جسداً من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة, فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه, فكان أشدهم فزعاً منه إبليس فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار يكون له صلصلة, فذلك حين يقول {من صلصال كالفخار} يقول لأمر ما خلقت, ودخل من فيه وخرج من دبره وقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا فإن ربكم صمد وهذا أجوف, لئن سلطت عليه لأهلكنه, فلما بلغ الحين الذي يريد الله عز وجل أن ينفخ فيه الروح, قال الملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له, فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس فقالت الملائكة قل الحمد لله, فقال الحمد لله, فقال له الله «رحمك ربك» فلما دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة, فلما دخل الروح إلى جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فذلك حين يقول الله تعالى {خلق الإنسان من عجل} فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين, أبى واستكبر وكان من الكافرين, قال الله له: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لما خلقت بيدي ؟ قال أنا خير منه لم أكن لأسجد لبشر خلقته من طين قال الله له: {فاهبط منها فما يكون لك} يعني ما ينبغي لك {أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين} والصغار هو الذل, قال {وعلم آدم الأسماء كلها} ثم عرض الخلق على الملائكة فقال {أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء, فقالوا: {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} قال الله: {يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم وما تبدون ما كنتم تكتمون} قال: قولهم {أتجعل فيها من يفسد فيها} فهذا الذي أبدوا {وأعلم ما تكتمون} يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر, فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السدي ويقع فيه إسرائيليات كثيرة, فلعل بعضها مدرج ليس من كلام الصحابة, أو أنهم أخذوا من بعض الكتب المتقدمة, والله أعلم. والحاكم يروي في مستدركه بهذا الإسناد بعينه ويقول أشياء ويقول على شرط البخاري.
والغرض أن الله تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لاَدم, دخل إبليس في خطابهم لأنه وإن لم يكن من عنصرهم إلا أنه كان قد تشبه بهم وتوسم بأفعالهم, فلهذا دخل في الخطاب لهم وذم في مخالفة الأمر, وسنبسط المسألة إن شاء الله تعالى عند قوله: {إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه} ولذا قال محمد بن إسحاق عن خلاد عن عطاء عن طاوس عن ابن عباس, قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل وكان من سكان الأرض وكان من أشد الملائكة اجتهاداً, وأكثرهم علماً, فذلك دعاه إلى الكبر, وكان من حي يسمونه جناً, وفي رواية عن خلاد عن عطاء عن طاوس أو مجاهد عن ابن عباس أو غيره بنحوه, وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عباد يعني ابن العوام عن سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال: كان إبليس اسمه عزازيل, وكان من أشرف الملائكة من ذوي الأجنحة الأربعة, ثم أبلس بعد وقال سنيد, عن حجاج عن ابن جريج, قال: قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة, وكان خازناً على الجنان, وكان له سلطان سماء الدنيا, وكان له سلطان الأرض, وهكذا روى الضحاك وغيره عن ابن عباس سواء. وقال صالح مولى التوأمة عن ابن عباس: إن من الملائكة قبيلاً يقال لهم الجن: وكان إبليس منهم, وكان يسوس ما بين السماء والأرض, فعصى, فمسخه الله شيطاناً رجيماً, رواه ابن جرير, وقال قتادة عن سعد بن المسيب: كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا, وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا عدي بن أبي عدي عن عوف عن الحسن, قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط, وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس, وهذا الإسناد صحيح عن الحسن, وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم سواء. وقال شهر بن حوشب: كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء, رواه ابن جرير. وقال سنيد بن داود: حدثنا هشيم أنبأنا عبد الرحمن بن يحيى عن موسى بن نمير وعثمان بن سعيد بن كامل عن سعد بن مسعود, قال: كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس وكان صغيراً فكان مع الملائكة يتعبد معها فلما أمروا بالسجود لاَدم سجدوا, فأبى إبليس, فلذلك قال تعالى: {إلا إبليس كان من الجن} وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن القزاز حدثنا أبو عاصم عن شريك عن رجل عن عكرمة عن ابن عباس قال: إن الله خلق خلقاً فقال اسجدوا لاَدم فقالوا: لا نفعل فبعث الله عليهم ناراً فأحرقتهم, ثم خلق خلقاً آخر فقال: {إني خالق بشراً من طين} اسجدوا لاَدم قال: فأبوا فبعث الله عليهم ناراً فأحرقتهم, ثم خلق هؤلاء فقال اسجدوا لاَدم قالوا نعم, وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لاَدم ـ وهذا غريب ولا يكاد يصح إسناده فإن فيه رجلاً مبهماً ومثله لا يحتج به, والله أعلم. وقال ابنأبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة حدثنا صالح بن حيان حدثنا عبد الله بن بريدة: قوله تعالى: {وكان من الكافرين} من الذين أبوا فأحرقتهم النار, وقال أبو جعفر رضي الله عنه عن الربيع عن أبي العالية {وكان من الكافرين} يعني من العاصين وقال السدي {وكان من الكافرين} الذين لم يخلقهم الله يومئذ يكونون بعد, وقال محمد بن كعب القرضي ابتدأ الله خلق إبليس على الكفر والضلالة وعمل بعمل الملائكة فصيره الله إلى ما أبدى عليه خلقه على الكفر, قال الله تعالى: {وكان من الكافرين} وقال قتادة في قوله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لاَدم} فكانت الطاعة لله والسجدة لاَدم, أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته, وقال بعض الناس كان هذا سجود تحية وسلام وإكرام كما قال تعالى: {ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا, وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً} وقد كان هذا مشروعاً في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا, قال معاذ: قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعلمائهم, فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك, فقال: «لا لو كنت آمراً بشراً أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها» ورجحه الرازي, وقال بعضهم بل كانت السجدة لله وآدم قبلة فيها كما قال تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} وفي هذا التنظير نظر, والأظهر أن القول الأول أولى, والسجدة لاَدم إكراماً وإعظاماً واحتراماً وسلاماً, وهي طاعة لله عزّ وجلّ لأنها امتثال لأمره تعالى, وقد قواه الرازي في تفيسره وضعف ما عداه من القولين الاَخرين وهما كونه جعل قبلة إذ لا يظهر فيه شرف والاَخر أن المراد بالسجود الخضوع لا الانحناء ووضع الجبهة على الأرض وهو ضعيف كما قال, وقال قتادة في قوله تعالى: {فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} حسد عدو الله إبليس آدم عليه السلام ما أعطاه من الكرامة, وقال: أنا ناري وهذا طيني, وكان بدء الذنوب الكبر, استكبر عدو الله أن يسجد لاَدم عليه السلام, قلت وقد ثبت في الصحيح «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر» وقد كان في إبليس من الكبر ـ والكفر ـ والعناد ما اقتضى طرده وإبعاده عن جناب الرجمة وحضرة القدس, قال بعض المعربين وكان من الكافرين أي وصار من الكافرين بسبب امتناعه كما قال {فكان من المغرقين} وقال: {فتكونا من الظالمين} وقال الشاعر:
بتيهاء قفر والمطي كأنهاقطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها
أي قد صارت وقال ابن فورك: تقديره وقد كان في علم الله من الكافرين, ورجحه القرطبي, وذكر ههنا مسألة فقال: قال علماؤنا من أظهر الله على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالاً على ولايته خلافاً لبعض الصوفية والرافضة هذا لفظه, ثم استدل على ما قال: بأنا لا نقطع بهذا الذي جرى الخارق على يديه أن يوافي الله بالإيمان وهو لا يقطع لنفسه لذلك يعني والولي الذي يقطع له بذلك في نفس الأمر قلت وقد استدل بعضهم على أن الخارق قد يكون على يدي غير الولي بل قد يكون على يد الفاجر والكافر أيضاً بما ثبت عن ابن صياد أنه قال: هو الدخ حين خبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم {فارتقب يوم تأت السماء بدخان مبين} وبما كا يصدر عنه أنه كان يملأ الطريق إذا غضب حتى ضربه عبد الله بن عمر, وبما ثبت به الأحاديث عن الدجال بما يكون على يديه من الخوارق الكثيرة من أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر, والأرض أن تنبت فتنبت, وتتبعه كنوز الأرض مثل اليعاسيب, وأنه يقتل ذلك الشاب ثم يحييه إلى غير ذلك من الأمور المهولة. وقد قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي قلت للشافعي كان الليث بن سعد يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة, فقال الشافعي: قصر الليث رحمه الله, بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة وقد حكى الرازي وغيره قولين للعلماء: هل المأمور بالسجود لاَدم خاص بملائكة الأرض أو عام في ملائكة السموات والأرض, وقد رجح كلا من القولين طائفة, وظاهر الاَية الكريمة العموم {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس} فهذه أربعة أوجه مقوية للعموم, والله أعلم.


** وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـَذِهِ الشّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظّالِمِينَ * فَأَزَلّهُمَا الشّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرّ وَمَتَاعٌ إِلَىَ حِينٍ
يقول الله تعالى إخباراً عما أكرم به آدم: بعد أن أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس وأنه أباح له الجنة يسكن منها حيث يشاء ويأكل منها ما شاء رغداً أي هنيئاً واسعاً طيباً: وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث محمد بن عيسى الدامغاني, حدثنا سلمة بن الفضل عن ميكائيل عن ليث عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر, قال: قلت يا رسول الله أريت آدم أنبياً كان ؟ قال: «نعم نبياً رسولاً كلمه الله قبلاً» ـ يعني عياناً ـ فقال: {اسكن أنت وزوجك الجنة} وقد اختلف في الجنة التي أسكنها آدم أهي في السماء أم في الأرض ؟ والأكثرون على الأول, وحكى القرطبي عن المعتزلة والقدرية القول بأنها في الأرض, وسيأتي تقرير ذلك في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى, وسياق الأية يقتضي أن حواء خلقت قبل دخول آدم الجنة وقد صرح بذلك محمد بن إسحاق حيث قال: لما فرغ الله من معاتبة إبليس أقبل على آدم وقد علمه الأسماء كلها فقال يا آدم أنبئهم بأسمائهم إلى قوله: {إنك أنت العليم الحكيم} قال ثم ألقيت السنة على آدم فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم عن ابن عباس وغيره, ثم أخذ ضلعاً من أضلاعه من شقه الأيسر ولأم مكانه لحماً, وآدم نائم لم يهب من نومه حتى خلق الله من ضلعه تلك زوجته حواء فسواها امرأة ليسكن إليها, فلما كشف عنه السنة وهب من نومه رآها إلى جنبه فقال فيما يزعمون والله أعلم «لحمي ودمي وزوجتي» فسكن إليها, فلما زوجه الله وجعل له سكناً من نفسه قال له قبلاً: {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} ويقال إن خلق حواء كان بعد دخول الجنة كما قال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة وعن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة فكان يمشي فيها وجشاً ليس له زوج يسكن إليه فنام نومة فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه, فسألها: ما أنت ؟ قالت امرأة, قال: ولم خلقت ؟ قالت لتسكن إلي. قالت له الملائكة ينظرون ما بلغ من علمه, ما اسمها يا آدم, قال: حواء, قالوا: ولِمَ سميت حواء ؟ قال: إنها خلقت من شيء حي. قال الله: {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما}.
وأما قوله: {ولا تقربا هذه الشجرة} فهو اختبار من الله تعالى وامتحان لاَدم وقد اختلف في هذه الشجرة ما هي, فقال السدي عمن حدثه عن ابن عباس: الشجرة التي نهي عنها آدم عليه السلام هي الكرم, وكذا قال سعيد بن جبير والسدي والشعبي وجعدة بن هبيرة ومحمد بن قيس, وقال السدي أيضاً في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مره عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة {ولا تقربا هذه الشجرة} هي الكرم. وتزعم يهود أنها الحنطة. وقال ابن جرير وابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن اسماعيل بن سمرة الأحمسي حدثنا أبو يحيى الحماني حدثنا النضر أبو عمر الخراز عن عكرمة عن ابن عباس قال: الشجرة التي نهي عنها آدم عليه السلام هي السنبلة, وقال عبد الرزاق أنبأنا ابن عيينة وابن المبارك عن الحسن بن عمارة عن المنهال بن عمر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: هي السنبلة وقال محمد بن إسحاق عن رجل من أهل العلم عن حجاج عن مجاهد عن ابن عباس قال: هي البر وقال ابن جرير: وحدثني المثنى بن إبراهيم, حدثنا مسلم بن إبراهيم, حدثنا القاسم حدثني رجل من بني تميم أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدم والشجرة التي تاب عندها آدم فكتب إليه أبو الجلد سألتني عن الشجرة التي نهي عنها آدم وهي السنبلة, وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم وهي الزيتونة, وكذلك فسره الحسن البصري ووهب بن منبه وعطية العوفي وأبو مالك ومحارب بن دثار وعبد الرحمن بن أبي ليلى, وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل اليمن عن وهب بن منبه أنه كان يقول هي البر ولكن الحبة منها في الجنة كَكُلَىَ البقر وألين من الزبد وأحلى من العسل, وقال سفيان الثوري عن حصين عن أبي مالك {ولا تقربا هذه الشجرة} قال النخلة: وقال ابن جرير عن مجاهد {ولا تقربا هذه الشجرة} قال التينة, وبه قال قتادة وابن جريج, وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية كانت الشجرة من أكل منها أحدث, ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث, وقال عبد الرزاق: حدثنا عمر بن عبد الرحمن بن مهران قال: سمعت وهب بن منبه يقول: لما أسكن الله آدم وزوجته الجنة ونهاه عن أكل الشجرة, وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها من بعض, وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم وهي الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته.
فهذه أقوال ستة في تفسير هذه الشجرة. قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: والصواب في ذلك أن يقال إن الله عز وجل ثناؤه: نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين, لأن الله لم يضع لعباده دليلاً على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة, وقد قيل: كانت شجرة البر وقيل كانت شجرة العنب وقيل كانت شجرة التين, وجائز أن تكون واحدة منها, وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه, وإن جهله جاهل لم يضره جهله به, والله أعلم, وكذلك رجح الإبهام الرازي في تفسيره وغيره وهو الصواب, وقوله تعالى: {فأزلهما الشيطان عنها} يصح أن يكون الضمير في قوله عنها عائداً إلى الجنة فيكون معنى الكلام كما قرأ عاصم بن بهدلة وهو ابن أبي النجود فأزالهما أي فنحاهما: ويصح أن يكون عائداً على أقرب المذكورين وهو الشجرة فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادة فأزلهما أي من قبل الزلل, فعلى هذا يكون تقدير الكلام {فأزلهما الشيطان عنها} أي بسببها, كما قال تعالى: {يؤفك عنه من أفك} أي يصرف بسببه من هو مأفوك, ولهذا قال تعالى {فأخرجهما مما كانا فيه} أي من اللباس والمنزل الرحب والرزق الهنيء والراحة {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ ولكم في الأرض مستقرّ ومتاع إلى حين} أي قرار وأرزاق وآجال ـ إلى حين ـ أي إلى وقت ومقدار معين ثم تقوم القيامة, وقد ذكر المفسرون من السلف كالسدي بأسانيده وأبي العالية ووهب بن منبه وغيرهم ههنا أخباراً إسرائيلية عن قصة الحية وإبليس, وكيف جرى من دخول إبليس إلى الجنة ووسوسته, وسنبسط ذلك إن شاء الله في سورة الأعراف فهناك القصة أبسط منها ههنا, والله الموفق, وقد قال ابن أبي حاتم ههنا: حدثنا علي بن الحسن بن إشكاب, حدثنا علي بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق آدم رجلاً طوالاً كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه, فأول ما بدا منه عورته, فلما نظرإلى عورته جعل يشتد في الجنة فأخذت شعره شجرة فنازعها فناداه الرحمن: يا آدم مني تفر» فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب لا, ولكن استحياء. قال: وحدثني جعفر بن أحمد بن الحكم القرشي سنة أربع وخمسين ومائتين, حدثنا سليمان بن منصور بن عمار حدثنا علي بن عاصم عن سعيد عن قتادة عن أبي بن كعب, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما ذاق آدم من الشجرة فر هارباً فتعلقت شجرة بشعره فنودي: يا آدم أفراراً مني ؟ قال: بل حياء منك, قال: يا آدم اخرج من جواري فبعزتي لا يساكنني فيها من عصاني, ولو خلقت مثلك ملء الأرض خلقاً ثم عصوني لأسكنتهم دار العاصين» هذا حديث غريب وفيه انقطاع بل إعضال بين قتادة وأبي بن كعب رضي الله عنهما. وقال الحاكم حدثنا أبو بكر بن بَالُوَيه عن محمد بن أحمد بن النضر عن معاوية بن عمرو عن زائدة عن عمار بن أبي معاوية البجلي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال: ما أسكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس, ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال عبد بن حميد في تفسيره حدثنا روح عن هشام عن الحسن, قال: لبث آدم في الجنة ساعة من نهار تلك الساعة ثلاثون ومائة سنة من أيام الدنيا. وقال أبو جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, قال: خرج آدم من الجنة للساعة التاسعة أو العاشرة فأخرج آدم معه غصناً من شجر الجنة على رأسه تاج من شجر الجنة وهو الإكليل من ورق الجنة. وقال السدي: قال الله تعالى: {اهبطوا منها جميعاً} فهبطوا ونزل آدم بالهند ونزل معه الحجر الأسود وقبضة من ورق الجنة, فبثه بالهند فنبتت شجرة الطيب فإنما أصل ما يجاء به من الطيب من الهند من قبضة الورق التي هبط بها آدم, وإنما قبضها آدم أسفاً على الجنة حين أخرج منها, وقال عمران بن عيينة. عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال: أهبط آدم من الجنة بِدَحْنا أرض الهند. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جريرعن عطاء عن سعيد عن ابن عباس قال: أهبط آدم عليه السلام إلى أرض يقال لها دحنا بين مكة والطائف. وعن الحسن البصري قال: أهبط آدم بالهند, وحواء بجدة, وإبليس بدستميسان من البصرة على أميال, وأهبطت الحية بأصبهان, رواه ابن أبي حاتم. وقال محمد بن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار بن الحارث حدثنا محمد بن سابق حدثنا عمر بن أبي قيس عن الزبير بن عدي عن ابن عمر قال: أهبط آدم بالصفا وحواء بالمروة. وقال رجاء بن سلمة أهبط آدم عليه السلام يداه على ركبتيه مطأطئاً رأسه, وأهبط إبليس مشبكاً بين أصابعه رافعاً رأسه إلى السماء وقال عبد الرزاق قال معمر أخبرني عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى, قال: إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض علمه صنعة كل شيء وزوده من ثمار الجنة, فثماركم هذه من ثمار الجنة غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير, وقال الزهري عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها» رواه مسلم والنسائي. وقال الرازي: أعلم أن في هذه الاَية تهديداً عظيماً عن كل المعاصي من وجوه (الأول) أن من تصور ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة كان على وجل شديد من المعاصي, قال الشاعر:
يا ناظراً يرنو بعيني راقدومشاهداً للأمر غير مشاهدتصل الذنوب إلى الذنوب وترتجيدرج الجنان ونيل فوز العابدأنسيت ربك حين أخرج آدمامنها إلى الدنيا بذنب واحد

وقال ابن القاسم:
ولكننا سبي العدو فهل ترىنعود إلى أوطاننا ونسلم

قال الرازي عن فتح الموصلي أنه قال: كنا قوماً من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى الدنيا, فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها. فإن قيل: فإذا كانت جنة آدم التي أخرج منها في السماء كما يقوله الجمهور من العلماء, فكيف تمكن إبليس من دخول الجنة, وقد طرد من هنالك طرداً قدرياً, والقدري لا يخالف ولا يمانع ؟ فالجواب: أن هذا بعينه استدل به من يقول: إن الجنة التي كان فيها آدم في الأرض لا في السماء, كما قد بسطنا هذا في أول كتابنا البداية والنهاية, وأجاب الجمهور بأجوبة, أحدها: أنه منع من دخول الجنة مكرماً, فأما على وجه السرقة والإهانة, فلا يمتنع, ولهذا قال بعضهم: كما جاء في التوراة أنه دخل في فم الحية إلى الجنة. وقد قال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهما وهو خارج باب الجنة. وقال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهما وهو في الأرض, وهما في السماء, ذكرها الزمخشري وغيره. وقد أورد القرطبي ههْنا أحاديث في الحيات وقتلهن وبيان حكم ذلك, فأجاد وأفاد.


** فَتَلَقّىَ آدَمُ مِن رّبّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ
قيل إن هذه الكلمات مفسرة بقوله تعالى: {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} وروي هذا عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي العالية والربيع بن أنس والحسن وقتادة ومحمد بن كعب القرظي وخالد بن معدان وعطاء الخراساني وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وقال أبو إسحاق السبيعي عن رجل من بني تميم قال: أتيت ابن عباس فسألته ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه ؟ قال: علم شأن الحج, وقال سفيان الثوري عن عبد العزيز بن رفيع, أخبرني من سمع عبيد بن عمير, وفي رواية قال أخبرني مجاهد عن عبيد بن عمير, أنه قال: قال آدم: يا رب خطيئتي التي أخطأت شيء كتبته علي قبل أن تخلقني أو شيء ابتدعته من قبل نفسي ؟ قال «بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك» قال: فكما كتبته علي فاغفر لي, قال: فذلك قوله تعالى: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} وقال السدي عمن حدثه عن ابن عباس فتلقى آدم من ربه كلمات, قال: قال آدم عليه السلام: يا رب ألم تخلقني بيدك ؟ قيل له: بلى, ونفخت فيّ من روحك ؟ قيل له بلى, وعطست فقلت يرحمك الله, وسبقت رحمتك غضبك ؟ قيل له: بلى, وكتبت علي أن أعمل هذا ؟ قيل له: بلى, قال: أرأيت إن تبت هل أنت راجعي إلى الجنة ؟ قال: نعم. وهكذا رواه العوفي وسعيد بن جبير وسعيد بن معبد عن ابن عباس بنحوه, ورواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن جبير عن ابن عباس, وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه, وهكذا فسره السدي وعطية العوفي, وقد روى ابن أبي حاتم ههنا حديثاً شبيهاً بهذا فقال: حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب, حدثنا علي بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال آدم عليه السلام: أرأيت يا رب إن تبت ورجعت أعائدي إلى الجنة ؟» قال: نعم فذلك قوله {فتلقى آدم من ربه كلمات} وهذا حديث غريب من هذا الوجه وفيه انقطاع, وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه. قال: إن آدم لما أصاب الخطيئة قال: أرأيت يا رب إن تبت وأصلحت ؟ قال الله «إذاً أدخلك الجنة» فهي الكلمات ومن الكلمات أيضاً {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه كان يقول في قول الله تعالى: فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه, قال: كلمات: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك, رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين, اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك, رب إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين, اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك, رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم. وقوله تعالى {إنه هو التواب الرحيم} أي إنه يتوب على من تاب إليه وأناب كقوله {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده} وقوله: {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه} الاَية, وقوله: {ومن تاب وعمل صالحاً} وغير ذلك من الاَيات الدالة على أنه تعالى يغفر الذنوب, ويتوب على من يتوب, وهذا من لطفه بخلقه ورحمته بعبيده, لا إله إلا هو التواب الرحيم.


** قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمّا يَأْتِيَنّكُم مّنّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالّذِينَ كَفَرواْ وَكَذّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَـَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
يقول تعالى مخبراً عما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حين أهبطهم من الجنة, والمراد الذرية, أنه سينزل الكتب ويبعث الأنبياء والرسل كما قال أبو العالية: الهدى: الأنبياء والرسل والبينات والبيان, وقال مقاتل بن حيان الهدى: محمد صلى الله عليه وسلم, وقال الحسن: الهدى: القرآن, وهذان القولان صحيحان, وقول أبي العالية أعم {فمن اتبع هداي} أي من أقبل على ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرسل {فلا خوف عليهم} أي فيما يستقبلونه من أمر الاَخرة {ولا هم يحزنون} على ما فاتهم من أمور الدنيا كما قال في سورة طه {قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتّبع هداي فلا يضل ولا يشقى} قال ابن عباس: فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الاَخرة {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى} كما قال ههنا {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} أي مخلدون فيها لا محيد لهم عنها ولا محيص وقد أورد ابن جرير ههنا حديثاً ساقه من طريقين عن أبي سلمة سعيد بن يزيد عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة عن أبي سعيد واسمه سعد بن مالك بن سنان الخدري, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أهل النار الذي هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون ولكن أقوام أصابتهم النار بخطاياهم فأماتتهم إماتة حتى إذا صاروا فحماً أُذن في الشفاعة» وقد رواه مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة به. وذكر هذا الإهباط الثاني لما تعلق به ما بعده من المعنى المغاير للأول, وزعم بعضهم: أنه تأكيد وتكرير, كما يقال: قم قم, وقال آخرون: بل الاهباط الأول من الجنة إلى السماء الدنيا, والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض, والصحيح الأول, والله أعلم.


** يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيَ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ * وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوَاْ أَوّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيّايَ فَاتّقُونِ
يقول تعالى آمراً بني إسرائيل بالدخول في الإسلام, ومتابعة محمد عليه من الله أفضل الصلاة والسلام, ومهيجاً لهم بذكر أبيهم إسرائيل وهو نبي الله يعقوب عليه السلام, وتقديره يا بني العبد الصالح المطيع لله, كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق كما تقول يا ابن الكريم افعل كذا, يا ابن الشجاع بارز الأبطال, يا ابن العالم اطلب العلم, ونحو ذلك. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً} فإسرائيل هو يعقوب بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي, حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب, قال: حدثني عبد الله بن عباس قال: حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم, فقال لهم «هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب ؟» قالوا: اللهم نعم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اشهد» وقال الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن عمير مولى ابن عباس عن عبد الله بن عباس: أن إسرائيل كقولك عبد الله وقوله تعالى {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} قال مجاهد: نعمة الله التي أنعم بها عليهم فيما سمى, وفيما سوى ذلك أن فجر لهم الحجر وأنزل عليهم المن والسلوى ونجاهم من عبودية آل فرعون, وقال أبو العالية: نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل, وأنزل عليهم الكتب, قلت: وهذا كقول موسى عليه السلام لهم {يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين} يعني في زمانهم, وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} أي بلائي عندكم وعند آبائكم لما كان نجاهم من فرعون وقومه {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} قال: بعهدي الذي أخذت في أعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم أنجز لكم ما وعدتكم عليه من تصديقه واتباعه بوضع ما كان عليكم من الاَصار والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من إحداثكم. وقال الحسن البصري: هو قوله تعالى {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً, وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار} الاَية وقال آخرون: هو الذي أخذ الله عليهم في التوراة أنه سيبعث من بني إسماعيل نبياً عظيماً يطيعه جميع الشعوب والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم فمن اتبعه غفر الله له ذنبه وأدخله الجنة وجعل له أجرين. وقد أورد الرازي بشارات كثيرة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بمحمد صلى الله عليه وسلم, قال أبو العالية {وأوفوا بعهدي} قال عهده إلى عباده دين الإسلام وأن يتبعوه, وقال الضحاك عن ابن عباس: أوف بعهدكم ؟ قال: أرض عنكم وأدخلكم الجنة, وكذا قال السدي والضحاك وأبو العالية والربيع بن أنس, وقوله تعالى {وإياي فارهبون} أي فاخشون, قاله أبو العالية والسدي والربيع بن أنس وقتادة, وقال ابن عباس في قوله تعالى {وإياي فارهبون} أي إن نزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره, وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة لعلهم يرجعون إلى الحق واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والاتعاظ بالقرآن وزواجره وامتثال أوامره وتصديق أخباره والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم, ولهذا قال {وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم} يعني به القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي العربي بشيراً ونذيراً وسراجاً منيراً مشتملاً على الحق من الله تعالى مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل, قال أبو العالية رحمه الله في قوله تعالى {وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم} يقول: يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم, يقول لأنهم يجدون محمداً صلى الله عليه وسلم مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك, وقوله: {ولا تكونوا أول كافر به} قال بعض المعربين: أول فريق كافر به أو نحو ذلك, قال ابن عباس: ولا تكونوا أول كافر به وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم, قال أبو العالية: يقول: ولا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم, يعني من جنسكم أهل الكتاب بعد سماعكم بمبعثه, وكذا قال الحسن والسدي والربيع بن أنس, واختار ابن جرير أن الضمير في قوله به عائد على القرآن الذي تقدم ذكره في قوله {بما أنزلت} وكلا القولين صحيح لأنهما متلازمان, لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم, ومن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالقرآن, وأما قوله {أول كافر به} فيعني به أول من كفر به من بني إسرائيل, لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بشر كثير, وإنما المراد أول من كفر به من بني إسرائيل مباشرة, فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن فكفرهم به يستلزم أنهم أول من كفر به من جنسهم, وقوله تعالى: {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً} يقول: لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها, فإنها قليلة فانية, كما قال عبد الله بن المبارك: أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن جابر عن هارون بن يزيد قال: سئل الحسن, يعني البصري عن قوله تعالى, ثمتأ قليلاً قال: الثمن القليل الدنيا بحذافيرها قال: ابن لهيعة: حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله تعالى {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً} إن آياته كتابه الذي أنزله إليهم, وإن الثمن القليل الدنيا وشهواتها, وقال السدي: {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً} يقول: لا تأخذوا طمعاً قليلاً, ولا تكتموا اسم الله, فذلك الطمع هو الثمن, وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً} يقول: لا تأخذوا عليه أجراً, قال: وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا ابن آدم عَلّم مجاناً عُلمتَ مجاناً, وقيل: معناه لا تعتاضوا عن البيان والإيضاح ونشر العلم النافع بالكتمان واللبس لتستمروا على رياستكم في الدنيا القليلة الحقيرة الزائلة عن قريب, وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من تعلم علماً مما يبتغىَ به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة يوم القيامة» فأما تعليم العلم بأجرة, فإن كان قد تعين عليه فلا يجوز أن يأخذ عليه أجرة, ويجوز أن يتناول من بيت المال ما يقوم به حاله وعياله بأجرة, فإن لم يحصل له منه شيء وقطعه التعليم عن التكسب, فهو كما لم يتعين عليه, وإذا لم يتعين عليه فإنه يجوز أن يأخذ عليه أجرة عند مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد في قصة اللديغ «إن أحق ماأخذتم عليه أجراً كتاب الله» وقوله في قصة المخطوبة «زوجتكها بما معك من القرآن» فأما حديث عبادة بن الصامت, أنه علم رجلاً من أهل الصفة شيئاً من القرآن فأهدى له قوساً فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «إن أحببت أن تطوق بقوس من نار فاقبله» فتركه, رواه أبو داود, وروي مثله عن أبي ابن كعب مرفوعاً, فإن صح إسناده فهو محمول عند كثير من العلماء منهم: أبو عمر بن عبد البر, على أنه لما علمه لله لم يجز بعد هذا أن يعتاض عن ثواب الله بذلك القوس, فأما إذا كان من أول الأمر على التعليم بالأجرة فإنه يصح كما في حديث اللديغ وحديث سهل في المخطوبة, والله أعلم. وقوله {وإياي فاتقون} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عمر الدوري, حدثنا أبو إسماعيل المؤدب عن عاصم الأحول عن أبي العالية عن طلق بن حبيب, قال: التقوى أن تعمل بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله, وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله, ومعنى قول {وإياي فاتقون} أنه تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه من كتمان الحق وإظهار خلافه ومخالفتهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه.


** وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرّاكِعِينَ
يقول تعالى ناهياً لليهود عما كانوا يتعمدونه من تلبيس الحق بالباطل, وتمويهه به, وكتمانهم الحق, وإظهارهم الباطل: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} فنهاهم عن الشيئين معاً, وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به, ولهذا قال الضحاك عن ابن عباس ـ ولا تلبسوا الحق بالباطل: لا تخلطوا الحق بالباطل, والصدق بالكذب. وقال أبو العالية ـ ولا تلبسوا الحق بالباطل ـ يقول, ولا تخلطوا الحق بالباطل, وأدوا النصيحة لعباد الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويروى عن سعيد بن جبير والربيع بن أنس نحوه وقال قتادة {ولا تلبسوا الحق بالباطل} ولا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام, وأنتم تعلمون أن دين الله الاسلام, وأن اليهودية والنصراينة بدعة ليست من الله, وروي عن الحسن البصري نحو ذلك, وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس {وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} أي لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به وأنتم تجدونه مكتوباً عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم, وروي عن أبي العالية نحو ذلك وقال مجاهد والسدي وقتادة والربيع بن أنس {وتكتموا الحق} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم (قلت) وتكتموا يحتمل أن يكون مجزوماً, ويحتمل أن يكون منصوباً, أي لا تجمعوا بين هذا وهذا كما يقال: لا تأكل السمك وتشرب اللبن, قال الزمخشري: وفي مصحف ابن مسعود وتكتمون الحق أي في حال كتمانكم الحق وأنتم تعلمون حال أيضاً, ومعناه وأنتم تعلمون الحق, ويجوز أن يكون المعنى: وأنتم تعلمون ما في ذلك من الضرر العظيم على الناس من إضلالهم عن الهدى المفضي بهم إلى النار إلى أن سلكوا ما تبدونه لهم من الباطل المشوب بنوع من الحق لتروّجوه عليهم, والبيان الإيضاح وعكسه الكتمان وخلط الحق بالباطل {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين} قال مقاتل: قوله تعالى لأهل الكتاب {وأقيموا الصلاة} أمرهم أن يصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم {وآتوا الزكاة} أمرهم أن يؤتوا الزكاة أي يدفعونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم {واركعوا مع الراكعين} أمرهم أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم, يقول: كونوا معهم ومنهم, وقال علي بن طلحة عن ابن عباس: يعني بالزكاة طاعة الله والإخلاص, وقال وكيع عن أبي جناب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: وآتوا الزكاة, قال: ما يوجب الزكاة ؟ قال: مائتان فصاعداً, وقال مبارك بن فضالة عن الحسن في قوله تعالى {وآتوا الزكاة} قال: فريضة واجبة لا تنفع الأعمال إلا بها وبالصلاة, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن أبي حيان التيمي عن الحارث العكلي في قوله تعالى {وآتوا الزكاة} قال: صدقة الفطر, وقوله تعالى: {واركعوا مع الراكعين} أي وكونوا مع المؤمنين في أحسن أعمالهم, ومن أخص ذلك وأكمله الصلاة, وقد استدل كثير من العلماء بهذه الاَية على وجوب الجماعة, وأبسط ذلك في كتاب الأحكام الكبير إن شاء الله تعالى, وقد تكلم القرطبي على مسائل الجماعة والإمامة فأجاد.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://domoo3.own0.com/
RoMa
Admin
RoMa


عدد المساهمات : 1980
نقاط : 6051
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 04/09/2011
العمر : 29
الموقع : دموع عيون حبيبى

تفسير سورة البقرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة   تفسير سورة البقرة I_icon_minitimeالأحد أكتوبر 30, 2011 11:09 pm

** أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
يقول تعالى: كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب, وأنتم تأمرون الناس بالبر وهو جماع الخير, أن تنسوا أنفسكم فلا تأتمروا بما تأمرون الناس به, وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب وتعلمون ما فيه على من قصر في أوامر الله ؟ أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم, فتنتبهوا من رقدتكم, وتتبصروا من عمايتكم, وهذا كما قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} قال: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر, ويخالفون, فعيرهم الله عز وجل, وكذلك قال السدي وقال ابنجريج: {أتأمرون الناس بالبر} أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة ويدعون العمل بما يأمرون به الناس, فعيرهم الله بذلك, فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة, وقال محمد بن إسحاق عن محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس: {وتنسون أنفسكم} أي تتركون أنفسكم {وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} أي تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهد من التوراة وتتركون أنفسكم, أي وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي وتنقضون ميثاقي وتجحدون ما تعلمون من كتابي, وقال الضحاك عن ابن عباس: في هذه الاَية يقول: أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة وتنسون أنفسكم, وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني علي بن الحسن حدثنا مسلم الجرمي حدثنا مخلد بن الحسين عن أيوب السختياني. عن أبي قلابة في قول الله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب} قال أبو الدرداء رضي الله عنه: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الاَية هؤلاء اليهود إذا جاء الرجل سألهم عن الشيء ليس فيه حق ولا رشوة أمروه بالحق, فقال الله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} والغرض: أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع, ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه, وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له, فإن الأمر بالمعروف معروف وهو واجب على العالم, ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به ولا يتخلف عنهم كما قال شعيب عليه السلام: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الاَخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف, وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها وهذا ضعيف, وأضعف منه تمسكهم بهذه الاَية فإنه لا حجة لهم فيها, والصحيح: أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله, وينهى عن المنكر وإن ارتكبه, قال مالك عن ربيعة: سمعت سعيد بن جبير يقول: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. قال مالك: وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء ؟ (قلت) لكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية لعلمه بها ومخالفته على بصيرة فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم, ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك, كما قال الإمام أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي والحسن بن علي العمري, قالا: حدثنا هشام بن عمار حدثنا علي بن سليمان الكلبي حدثنا الأعمش عن أبي تميمة الهجيمي عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به, كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه» هذا حديث غريب من هذا الوجه. حديث آخر قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: حدثنا وكيع حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد هو ابن جدعان عن أنس بن مالك رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار, قال: قلت من هؤلاء ؟ قالوا: خطباء أمتك من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون» ورواه عبد بن حميد في مسنده وتفسيره عن الحسن بن موسى عن حماد بن سلمة به, ورواه ابن مردويه في تفسيره من حديث يونس بن محمد المؤدب والحجاج بن منهال كلاهما عن حماد بن سلمة به, وكذا رواه يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة به, ثم قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم حدثنا موسى بن هارون حدثنا إسحاق بن إبراهيم التستري ببلخ مكي بن إبراهيم حدثنا عمر بن قيس عن علي بن زيد عن ثمامة عن أنس, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار, قلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم» وأخرجه ابن حبان في صحيحه, وابن أبي حاتم وابن مردويه أيضاً من حديث هشام الدستوائي عن المغيرة يعني ابن حبيب ختن مالك بن دينار عن مالك بن دينار عن ثمامة عن أنس بن مالك, قال: لما عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بقوم تقرض شفاههم, فقال: يا جبريل من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم أفلا يعقلون. حديث آخر ـ قال الإمام أحمد: حدثنا يعلى بن عبيد: حدثنا الأعمش عن أبي وائل, قال: قيل لأسامة وأنا رديفه: ألا تكلم عثمان ؟ فقال: إنكم ترون أني لا أكلمه, ألا أسمعكم إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من افتتحه, والله لا أقول لرجل إنك خير الناس وإن كان علي أميراً بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قالوا: وما سمعته يقول ؟ قال: سمعته يقول: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابه, فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه, فيطيف به أهل النار فيقولون: يا فلان ما أصابك, ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه, وأنهاكم عن المنكر وآتيه» رواه البخاري ومسلم من حديث سليمان بن مهران الأعمش به نحوه وقال أحمد. حدثنا سيار بن حاتم حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يعافي الأميين يوم القيامة مالا يعافي العلماء» وقد ورد في بعض الاَثار: أنه يغفر للجاهل سبعين مرة حتى يعفر للعالم مرة واحدة, ليس من يعلم كمن لا يعلم. وقال تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب} وروى ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: «إن أناساً من أهل الجنة يطلعون على أناس من أهل النار فيقولون بم دخلتم النار ؟ فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم, فيقولون: إنا كنا نقول ولا نفعل» ورواه ابن جرير الطبري عن أحمد بن يحيى الخباز الرملي عن زهير بن عباد الرواسي عن أبي بكر الزهري عبد الله بن حكيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن الوليد بن عقبة فذكره, وقال الضحاك عن ابن عباس: أنه جاءه رجل فقال: يا ابن عباس, إن أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر, قال: أبلغت ذلك ؟ قال: أرجو, قال: إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل, قال: وما هن ؟ قال: قوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} أحكمت هذه قال: لا, قال: فالحرف الثاني ؟ قال: قوله تعالى: {لم تقولون ما لا تفعلون ؟ كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} أحكمت هذه ؟ قال: لا, قال: فالحرف الثالث ؟ قال: قول العبد الصالح شعيب عليه السلام {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح} أحكمت هذه الاَية ؟ قال: لا, قال: فابدأ بنفسك, رواه ابن مردويه في تفسيره, وقال الطبراني: حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا زيد بن الحارث حدثنا عبد الله بن خراش عن العوام بن حوشب عن المسيب بن رافع عن ابن عمر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في ظل سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال أو دعا إليه» إسناده فيه ضعف وقال إبراهيم النخعي: إن لأكره القصص لثلاث آيات: قوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} وقوله: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون} وقوله إخباراً عن شعيب: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب}.


** وَاسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ وَإِنّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الّذِينَ يَظُنّونَ أَنّهُم مّلاَقُو رَبّهِمْ وَأَنّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
يقول تعالى آمراً عبيده فيما يؤملون من خير الدنيا والاَخرة بالاستعانة بالصبر والصلاة, كما قال مقاتل بن حيان في تفسير هذه الاَية: استعينوا على طلب الاَخرة بالصبر على الفرائض والصلاة, فأما الصبر فقيل: إنه الصيام, نص عليه مجاهد, قال القرطبي وغيره: ولهذا يُسمى رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث, وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن جري بن كليب عن رجل من بني سليم عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال «الصوم نصف الصبر» وقيل: المراد بالصبر الكف عن المعاصي, ولهذا قرنه بأداء العبادات وأعلاها فعل الصلاة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبيد الله بن حمزة بن إسماعيل حدثنا إسحاق بن سليمان عن أبي سنان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه, قال: الصبر صبران: صبر عند المصيبة حسن, وأحسن منه الصبر عن محارم الله. قال: وروي عن الحسن البصري نحو قول عمر, وقال ابن المبارك عن ابن لهيعة عن مالك بن دينار عن سعيد بن جبير, قال: الصبر: اعتراف العبد لله بما أصيب فيه واحتسابه عند الله ورجاء ثوابه, وقد يجزع الرجل وهو يتجلد لا يرى منه إلا الصبر. وقال أبو العالية في قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} قال: على مرضاة الله, واعلموا أنها من طاعة الله, وأما قوله: والصلاة, فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر كما قال تعالى: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} الاَية. وقال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن عكرمة بن عمار عن محمد بن عبد الله الدؤلي قال: قال عبد العزيز أخو حذيفة: قال حذيفة, يعني ابن اليمان رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم , إذا حزبه أمر صلى, ورواه أبو داود عن محمد بن عيسى عن يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار كما سيأتي, وقد رواه ابن جرير من حديث ابن جريج عن عكرمة بن عمار عن محمد بن عبيد بن أبي قدامة عن عبد العزيز بن اليمان عن حذيفة, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. ورواه بعضهم عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة, ويقال: أخي حذيفة مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم, وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة: حدثنا سهل بن عثمان العسكري حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال: قال عكرمة بن عمار: قال محمد بن عبد الله الدؤلي: قال عبد العزيز: قال حذيفة: رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم, ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي, وكان إذا حزبه أمر صلى. حدثنا عبد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمع حارثة بن مضرب سمع علياً رضي الله عنه يقول: لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح. قال ابن جرير: وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه مر بأبي هريرة وهو منبطح على بطنه فقال له: «أشكم درد» ومعناه أيوجعك بطنك ؟ قال: نعم, قال: «قم فصل, فإن الصلاة شفاء» قال ابن جرير: وقد حدثنا محمد بن الفضل ويعقوب بن إبراهيم, قالا: حدثنا ابن علية حدثنا عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه: أن ابن عباس نعي إليه أخوه قسم وهو في سفر, فاسترجع ثم تنحى عن الطريق فأناخ, فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس, ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة على الخاشعين} وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج: {واستعينوا بالصبر والصلاة} قال إنهما معونتان على رحمة الله. والضمير في قوله: إنها لكبيرة عائد إلى الصلاة, نص عليه المجاهد, واختاره ابن جرير, ويحتمل أن يكون عائداً على ما يدل عليه الكلام وهو الوصية بذلك, كقوله تعالى في قصة قارون {وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون} وقال تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} أي وما يلقى هذه الوصية إلا الذين صبروا, وما يلقاها أي يؤتاها ويلهمها إلا ذو حظ عظيم. وعلى كل تقدير فقوله تعالى: {وإنها لكبيرة}. أي مشقة ثقيلة إلا على الخاشعين قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني المصدقين بما أنزل الله, وقال مجاهد: المؤمنين حقاً, وقال أبو العالية: إلا على الخاشعين الخائفين, وقال مقاتل بن حيان: إلا الخاشعين يعني به المتواضعين وقال الضحاك: وإنها لكبيرة, قال: إنها لثقيلة إلا على الخاضعين لطاعته الخائفين سطوته المصدقين بوعده ووعيده. وهذا يشبه ما جاء في الحديث «لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه» وقال ابن جرير: معنى الاَية: واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب بحبس أنفسكم على طاعة الله وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر المقربة من رضا الله العظيمة إقامتها إلا على الخاشعين أي المتواضعين المستكينين لطاعته المتذللين من مخافته. هكذا قال: والظاهر أن الاَية وإن كانت خطاباً في سياق إنذار بني إسرائيل, فإنهم لم يقصدوا على سبيل التخصيص, وإنما هي عامة لهم ولغيرهم, والله أعلم.
وقوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون} هذا من تمام الكلام الذي قبله, أي وإن الصلاة أو الوصاة لثقيلة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم, أي يعلمون أنهم محشورون إليه يوم القيامة معروضون عليه, وأنهم إليه راجعون أي أمورهم راجعة إلى مشيئته يحكم فيها ما يشاء بعدله, فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء سهل عليهم فعل الطاعات وترك المنكرات, فأما قوله {يظنون أنهم ملاقوا ربهم} قال ابن جرير, رحمه الله: العرب قد تسمي اليقين ظناً, والشك ظناً, نظير تسميتهم الظلمة سدفة, والضياء سدفة, والمغيث صارخاً, والمستغيث صارخاً, وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضده, كما قال دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنو ا بألفي مدججسراتهم في الفارسي المسرد
يعني بذلك: تيقنوا بألفي مدجج يأتيكم, وقال عمير بن طارق:
فإن يعبروا قومي وأقعد فيكموأجعل مني الظن غيباً مرجماً
يعني ويجعل اليقين غيباً مرجماً, قال: والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين أكثر من أن تحصر, وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية, ومنه قول الله تعالى: {ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها} ثم قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عاصم حدثنا سفيان عن جابر عن مجاهد: كل ظن في القرآن يقين أي ظننت وظنوا, وحدثني المثنى: حدثنا إسحاق حدثنا أبو داود الجبري عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد, قال: كل ظن في القرآن فهو علم, وهذا سند صحيح, وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} قال: الظن ههنا يقين, قال ابن أبي حاتم وروى عن مجاهد والسدي والربيع بن أنس وقتادة نحو قول أبي العالية, وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} علموا أنهم ملاقوا ربهم كقوله {إني طننت أني ملاق حسابيه} يقول علمت وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (قلت) وفي الصحيح: أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة «ألم أزوّجك ألم أكرمك ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع ؟ فيقول بلى فيقول الله تعالى «أظننت أنك ملاقي ؟» فيقول لا فيقول الله «اليوم أنساك كما نسيتني» وسيأتي مبسوطاً عند قوله تعالى {نسوا الله فنسيهم} إن شاء الله تعالى.


** يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِي الّتِيَ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّي فَضّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ
يذكرهم تعالى بسالف نعمه إلى آبائهم وأسلافهم, وما كان فضلهم به من إرسال الرسل منهم وإنزال الكتب عليهم وعلى سائر الأمم من أهل زمانهم, كما قال تعالى: {ولقد اخترناهم على علم على العالمين} وقال تعالى: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم مالم يؤت أحداً من العالمين} قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {وأني فضلتكم على العالمين} قال: بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان, فإن لكل زمان عالماً, وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك, ويجب الحمل على هذا لأن هذه الأمة أفضل منهم لقوله تعالى, خطاباً لهذه الأمة {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم} وفي المسانيد والسنن عن معاوية بن حيدة القشيري, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله», والأحاديث في هذا كثيرة تذكر عند قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} وقيل, المراد تفضيل بنوع ما من الفضل على سائر الناس, ولا يلزم تفضيلهم مطلقاً, حكاه الرازي وفيه نظر, وقيل: إنهم فضلوا على سائر الأمم لاشتمال أمتهم على الأنبياء منهم, حكاه القرطبي في تفسيره, وفيه نظر, لأن العالمين عام يشمل من قبلهم ومن بعدهم من الأنبياء, فإبراهيم الخليل قبلهم وهو أفضل من سائر أنبيائهم, ومحمد بعدهم وهو أفضل من جميع الخلق وسيد ولد آدم في الدنيا والاَخرة, صلوات الله وسلامه عليه.


** وَاتّقُواْ يَوْماً لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ
لما ذكرهم تعالى بنعمه أولا, عطف على ذلك التحذير من طول نقمه بهم يوم القيامة, فقال: {واتقوا يوماً} يعني يوم القيامة {لا تجزي نفس عن نفس شيئاً} أي لا يغني أحد عن أحد, كما قال {ولا تزر وازرة وزر أخرى}: وقال {لكل امرى منهم يومئذ شأن يغينه} وقال: {يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئاً} فهذا أبلغ المقامات أن كلا من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الاَخر شيئاً, وقوله تعالى: {ولا يقبل منها شفاعة} يعني من الكافرين كما قال: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} وكما قال عن أهل النار {فما لنا من شافعين ولا صديق حميم} وقوله تعالى: {ولا يؤخذ منها عدل} أي لا يقبل منها فداء, كما قال تعالى: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به} وقال: {إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم} وقال تعالى: {وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها} وقال: {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم} الاَية. فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا يرسوله ويتابعوه على ما بعثه به ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه فإنه لا ينفعهم قرابة قريب ولا شفاعة ذي جاه, ولا يقبل منهم فداء ولو بملء الأرض ذهباً, كما قال تعالى: {من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} وقال: {لا بيع فيه ولا خلال} قال سنيد: حدثني حجاج حدثني ابن جريج قال: قال مجاهد: قال ابن عباس: {ولا يؤخذ منها عدل} قال: بدل, والبدل: الفدية, وقال السدي أما عدل فيعدلها من العدل يقول: لو جاءت بملء الأرض ذهباً تفتدى به ما تقبل منها, وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله: {ولا يقبل منها عدل} يعني فداء, قال ابن أبي حاتم, وروي عن أبي مالك والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك, وقال عبد الرزاق: أنبأنا الثوري عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي رضي الله عنه في حديث طويل, قال: والصرف والعدل التطوع والفريضة, وكذا قال الوليد بن مسلم عن عثمان بن أبي العاتكة عن عمير بن هانى وهذا القول غريب ههنا, والقول الأول أظهر في تفسير هذه الاَية, وقد ورد حديث يقويه وهو ما قال ابن جرير: حدثني نجيح بن إبراهيم حدثنا علي بن حكيم حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمرو بن قيس الملائي عن رجل من بني أمية من أهل الشام أحسن عليه الثناء, قال: قيل يارسول الله, ما العدل ؟ قال «العدل الفدية» وقوله تعالى: {ولا هم ينصرون} أي ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله, كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو جاه, ولا يقبل منهم فداء, هذا كله من جانب التلطف, ولا لهم ناصر من أنفسهم ولا من غيرهم, كما قال: {فما له من قوة ولا ناصر} أي أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة ولا ينقذ أحداً من عذابه منقذ, ولا يخلص منه أحد, ولا يجير منه أحد, كما قال تعالى: {وهو يجير ولا يجار عليه} وقال: {فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد} وقال: {مالكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون} وقال: {فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة بل ضلوا عنهم} الاَية, وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {مالكم لا تناصرون} مالكم اليوم لا تمانعون منا, هيهات ليس ذلك لكم اليوم, قال ابن جرير: وتأويل قوله: {ولا هم ينصرون} يعني أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر كما لا يشفع لهم شافع, ولا يقبل منهم عدل ولا فدية, بطلت هنالك المحاباة, واضمحلت الرشى والشفاعات, وارتفع من القوم التناصر والتعاون, وصار الحكم إلى الجبار العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء, فيجزي بالسيئة مثلها, وبالحسنة أضعافها, وذلك نظير قوله تعالى: {وقفوهم إنهم مسئولون * ما لكم لا تناصرون ؟ بل هم اليوم مستسلمون}


** وَإِذْ نَجّيْنَاكُم مّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلآءٌ مّن رّبّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ
يقول تعالى: اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب, أي خلصتكم منهم, وأنقذتكم من أيديهم صحبة موسى عليه السلام, وقد كانوا يسومونكم أي يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب, وذلك أن فرعون لعنه الله كان قد رأي رؤيا هالته, رأى ناراً خرجت من بيت المقدس فدخلت بيوت القبط ببلاد مصر إلا بيوت بني إسرائيل, مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل, ويقال بعد تحدث سماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم يكون لهم به دولة ورفعة, وهكذا جاء في حديث الفتون كما سيأتي في موضعه في سورة طه إن شاء الله تعالى, فعند ذلك أمر فرعون لعنه الله بقتل كل ذكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل وأن تترك البنات, وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأرذلها, ههنا فسر العذاب بذبح الأبناء, وفي سورة إبراهيم عطف عليه كما قال: {يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} وسيأتي تفسير ذلك في أول سورة القصص إن شاء الله تعالى, به الثقة والمعونة والتأييد. ومعنى يسومونكم يولونكم, قاله أبو عبيدة, كما يقال سامه خطة خسف إذا أولاه إياها, قال عمرو بن كلثوم:
إذا ما الملك سام الناس خسفاأبينا أن نقر الخسف فينا

وقيل معناه: يديمون عذابكم, كما يقال سائمة الغنم من إدامتها الرعي, نقله القرطبي, وإنما قال ههنا: {يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} ليكون ذلك تفسيراً للنعمة عليهم في قوله: {يسومونكم سوء العذاب} ثم فسره بهذا لقوله ههنا: {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} وأما في سورة إبراهيم فلما قال: {وذكرهم بأيام الله} أي بأياديه ونعمه عليهم فناسب أن يقول هناك: {يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} فعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي على بني إسرائيل وفرعون علم على كل من ملك مصر كافراً من العماليق وغيرهم, كما أن قيصر علم على كل من ملك الروم مع الشام كافراً, وكسرى لمن ملك الفرس, وتبع لمن ملك اليمن كافراً, والنجاشي لمن ملك الحبشة, وبطليموس لمن ملك الهند, ويقال كان اسم فرعون الذي كان في زمن موسى عليه السلام الوليد بن مصعب بن الريان, وقيل مصعب بن الريان, فكان من سلالة عمليق بن الأود بن إرم بن سام بن نوح, وكنيته أبو مرة, وأصله فارسي من اصطخر, وأيّاً ما كان فعليه لعنة الله, وقوله تعالى: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} قال ابن جرير: وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا آباءكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون بلاء لكم من ربكم عظيم, أي نعمة عظيمة عليكم في ذلك, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قوله تعالى: {بلاء من ربكم عظيم} قال: نعمة, وقال مجاهد {بلاء من ربكم عظيم} قال: نعمة من ربكم عظيمة, وكذا قال أبو العالية وأبو مالك والسدي وغيرهم, وأصل البلاء الاختبار وقد يكون بالخير والشر كما قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} وقال: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} قال ابن جرير: وأكثر ما يقال في الشر بلوته أبلوه بلاء, وفي الخير أبليه إبلاء وبلاء, قال زهير بن أبي سلمى:
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكموأبلاهما خير البلاء الذي يبلو

قال: فجمع بين اللغتين لأنه أراد فأنعم الله عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده, وقيل: المراد بقوله: {وفي ذلكم بلاء} إشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النساء, قال القرطبي: وهذا قول الجمهور ولفظه بعد ما حكى القول الأول, ثم قال: وقال الجمهور: الإشارة إلى الذبح ونحوه, والبلاء ههنا في الشر, والمعنى في الذبح مكروه وامتحان, وقوله تعالى: {وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون}, معناه وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون وخرجتم مع موسى عليه السلام, خرج فرعون في طلبكم ففرقنا بكم البحر كما أخبر تعالى عن ذلك مفصلاً كما سيأتي في مواضعه ومن أبسطها ما في سورة الشعراء إن شاء الله, {فأنجيناكم} أي خلصناكم منهم وحجزنا بينكم وبينهم وأغرقناهم وأنتم تنظرون, ليكون ذلك أشفى لصدوركم وأبلغ في إهانة عدوكم. قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن أبي إساحق الهمداني عن عمرو بن ميمون الأودي في قوله تعالى: {وإذ فرقنا بكم البحر ـ إلى قوله ـ وأنتم تنظرون}, قال: لما خرج موسى ببني إسرائيل, بلغ ذلك فرعون, فقال: لا تتبعوهم حتى تصيح الديكة, قال: فوالله ما صاح ليلتئذ ديك حتى أصبحوا, فدعا بشاة فذبحت, ثم قال: لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إليّ ستمائة ألف من القبط, فلما أتى موسى البحر قال له رجل من أصحابه يقال له يوشع بن نون: أين أمر ربك ؟ قال: أمامك, يشير إلى البحر, فأقحم يوشع فرسه في البحر حتى بلغ الغمر, فذهب به الغمر, ثم رجع فقال: أين أمر ربك يا موسى ؟ فوالله ما كذبت ولا كذبت, فعل ذلك ثلاث مرات ثم أوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر, فضربه فانفلق, فكان كل فرق كالطور العظيم يقول مثل الجبل ـ ثم سار موسى ومن معه, واتبعهم فرعون في طريقهم حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم, فلذلك قال: {وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون} وكذلك قال غير واحد من السلف كما سيأتي بيانه في موضعه, وقد ورد أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء, كما قال الإمام أحمد, حدثنا عفان حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن عبد الله بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس, قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوارء, فقال: «ما هذا اليوم الذي تصومون ؟» قالوا: هذا يوم صالح, هذا يوم نجى الله عز وجل فيه بني إسرائيل من عدوهم, فصامه موسى عليه السلام, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أحق بموسى منكم» فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصومه, وروى هذا الحديث البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه من طرق عن أيوب السختياني به نحو ما تقدم, وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو الربيع حدثنا سلام يعني ابن سليم عن زيد العمي عن يزيد الرقاشي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فلق الله البحر لبني إسرائيل يوم عاشوراء» وهذا ضعيف من هذا الوجه, فإن زيداً العمي فيه ضعف, وشيخه يزيد الرقاشي أضعف منه.


** وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمّ اتّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم, لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة, وكانت أربعين يوماً وهي المذكورة في الأعراف في قوله تعالى: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر} قيل إنها: ذو القعدة بكماله وعشر من ذي الحجة, وكان ذلك بعد خلاصهم من فرعون وإنجائهم من البحر, وقوله تعالى: {وإذ آتينا موسى الكتاب} يعني التوراة {والفرقان} وهو ما يفرق بين الحق والباطل والهدى والضلالة {لعلكم تهتدون} وكان ذلك أيضاً بعد خروجهم من البحر كما دل عليه سياق الكلام في سورة الأعراف, ولقوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون} وقيل: الواو زائدة, والمعنى ولقد آتينا موسى الكتاب الفرقان وهذا غريب, وقيل, عطف عليه وإن كان المعنى واحداً, كما في قول الشاعر:
وقدمت الأديم لراقشيهفألفى قولها كذباً ومينا

وقال الاَخر:
ألا حبذا هند وأرض بها هندوهند أتى من دونها النأي والبعد

فالكذب هو المين, والنأي: هو البعد. وقال عنترة:
حييت من طلل تقادم عهدهأقوى وأقفر بعد أم الهيثم

فعطف الإقفار على الإقواء وهو هو.


** وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوَاْ إِلَىَ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوَاْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ
هذه صفة توبته تعالى على بني إسرائيل من عبادة العجل, قال الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى {وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل} فقال: ذلك حين وقع في قلوبهم من شأن عبادتهم العجل ما وقع حتى قال تعالى: {ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا} الاَية. قال: فذلك حين يقول موسى {يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل} وقال أبو العالية وسعيد بن جبير والربيع بن أنس {فتوبوا إلى بارئكم} أي إلى خالقكم, قلت: وفي قوله ههنا {إلى بارئكم} تنبيه على عظم جرمهم, أي فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره. وقد روى النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث يزيد بن هارون عن الأصبغ بن زيد الوراق عن القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال, فقال الله تعالى: إن توبتهم أن يقتل كل واحد منهم من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن, فتاب أولئك الذين كانوا خفي على موسى وهارون ما اطلع الله على ذنوبهم فاعترفوا بها وفعلوا ما أمروا به فغفر الله للقاتل والمقتول, وهذا قطعة من حديث الفتون وسيأتي في سورة طه بكماله إن شاء الله. وقال ابن جرير: حدثني عبد الكريم بن الهيثم حدثنا إبراهيم بن بشار حدثنا سفيان بن عيينة قال: قال أبو سعيد عن عكرمة عن ابن عباس, قال: قال موسى لقومه: {توبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم, فتاب عليكم, إنه هو التواب الرحيم} قال: أمر موسى قومه عن أمر ربه عز وجل أن يقتلوا أنفسهم, قال: وأخبر الذين عبدوا العجل فجلسوا وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلمة شديدة, فجعل يقتل بعضهم بعضاً, فانجلت الظلمة عنهم وقد جلوا عن سبعين ألف قتيل, كل من قتل منهم كانت له توبة, وكل من بقي كانت له توبة. وقال ابن جرير: أخبرني القاسم بن أبي برة أنه سمع سعيد بن جبير ومجاهداً يقولان في قوله تعالى {فاقتلوا أنفسكم} قالا: قام بعضهم إلى بعض بالخناجر يقتل بعضهم بعضاً, لا يحنو رجل على قريب ولا بعيد حتى ألوى موسى بثوبه فطرحوا ما بأيديهم, فكشف عن سبعين ألف قتيل, وإن الله أوحى إلى موسى أن حسبي فقد اكتفيت فذلك حين ألوى موسى بثوبه وروي عن علي رضي الله عنه نحو ذلك, وقال قتادة: أمر القوم بشديد من الأمر فقاموا يتناحرون بالشفار, يقتل بعضهم بعضاً, حتى بلغ الله فيهم نقمته, فسقطت الشفار من أيديهم, فأمسك عنهم القتل فجعل لحيهم توبة, وللمقتول شهادة وقال الحسن البصري: أصابتهم ظلمة حندس, فقتل بعضهم بعضاً ثم انكشف عنهم فجعل توبتهم في ذلك, وقال السدي في قوله {فاقتلوا أنفسكم}قال: فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف, فكان من قتل من الفريقين شهيداً حتى كثر القتل حتى كادوا أن يهلكوا حتى قتل منهم سبعون ألفاً وحتى دعا موسى وهارون ربنا أهلكت بني إسرائيل ربنا البقية البقية, فأمرهم أن يلقوا السلاح, وتاب عليهم, فكان من قتل منهم من الفريقين شهيداً, ومن بقي مكفراً عنه, فذلك قوله {فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم} وقال الزهري: لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها برزوا ومعهم موسى فاضطربوا بالسيوف وتطاعنوا بالخناجر, وموسى رافع يديه حتى إذا فتر بعضهم, قالوا: يا نبي الله, ادع الله لنا, وأخذوا بعضديه يسندون يديه, فلم يزل أمرهم على ذلك حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيديهم بعضهم عن بعض فألقوا السلاح وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم, فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى, ما يحزنك, أما من قتل منهم فحي عندي يرزقون, وأما من بقي فقد قبلت توبته, فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل, رواه ابن جرير بإسناد جيد عنه, وقال ابن إسحاق: لما رجع موسى إلى قومه وأحرق العجل وذراه في اليم, خرج إلى ربه بمن اختار من قومه, فأخذتهم الصاعقة, ثم بعثوا, فسأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل, فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم, فبلغني أنهم قالوا لموسى: نصبر لأمر الله فأمر موسى من لم يكن عبد العجل أن يقتل من عبده, فجلسوا بالأفنية, وأصلت عليهم القوم السيوف, فجعلوا يقتلونهم, فهشى موسى, وبكى إليه النساء والصبيان يطلبون العفو عنهم, فتاب الله عليهم وعفا عنهم, وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما رجع موسى إلى قومه وكانوا سبعين رجلاً قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه, فقال لهم موسى: انطلقوا إلى موعد ربكم, فقالوا: يا موسى. ما من توبة, قال: بلى, اقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم ـ الاَية: فاخترطوا السيوف والجزرة والخناجر والسكاكين. قال: وبعث عليهم ضبابة, قال: فجعلوا يتلامسون بالأيدي ويقتل بعضهم بعضاً, قال: ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله وهو لايدري. قال: ويتنادون فيها رحم الله عبداً صبر نفسه حتى يبلغ الله رضاه, قال: فقتلاهم شهداء, وتيب على أحيائهم ثم قرأ {فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم}.


** وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىَ لَن نّؤْمِنَ لَكَ حَتّىَ نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمّ بَعَثْنَاكُم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق إذا سألتم رؤيتي جهرة عياناً مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم, كما قال ابن جريح, قال ابن عباس في هذه الأية {وإذا قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله} قال: علانية, وكذا قال إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق عن أبي الحويرث عن ابن عباس, أنه قال في قول الله تعالى {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} أي علانية, أي حتى نرى الله, وقال قتادة والربيع بن أنس {حتى نرى الله جهرة} أي عياناً, وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس: هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه, قال: فسمعوا كلاماً, فقالوا {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} قال: فسمعوا صوتاً فصعقوا يقول ماتوا. وقال مروان بن الحكم, فيما خطب به على منبر مكة: الصاعقة صيحة من السماء, وقال السدي في قوله {فأخذتكم الصاعقة} الصاعقة: نار, وقال عروة بن رويم في قوله {وأنتم تنظرون} قال: صعق بعضهم وبعض ينظرون, ثم بعث هؤلاء وصعق هؤلاء, وقال السدي {فأخذتكم الصاعقة} فماتوا, فقام موسى يبكي ويدعو الله, ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم {لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذواالعجل, ثم إن الله أحياهم فقاموا وعاشوا رجل رجل, ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون ؟ قال: فذلك قوله تعالى: {ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون} وقال الربيع بن أنس كان موتهم عقوبة لهم فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم, وكذا قال قتادة, وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن حميد حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق, قال: لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل, وقال لأخيه وللسامري ما قال, وحرق العجل وذراه في اليم, اختار موسى منهم سبعين رجلاً الخير فالخير, وقال: انطلقوا إلى الله وتوبوا إلى الله مما صنعتم, واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم, صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقّته له ربه, وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم, فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمروا به, وخرجوا للقاء الله, قالوا: يا موسى, اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا, فقال أفعل, فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله, ودنا موسى فدخل فيه, وقال للقوم: ادنوا, وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه, فضرب دونه بالحجاب, ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجوداً فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل, فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام, فأقبل إليهم, فقالوا لموسى {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} فأخذتهم الرجفة وهي الصاعقة, فماتوا جميعاً, وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول {رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي} قد سفهوا, أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل السفهاء منا ؟ أي إن هذا لهم هلاك واخترت منهم سبعين رجلاً الخير فالخير, أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد, فما الذي يصدقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا ؟ {إنا هدنا إليك} فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل ويطلب إليه حتى رد إليهم أرواحهم, وطلب إليهم التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل, فقال: لا, إلا أن يقتلوا أنفسهم ـ هذا سياق محمد بن إسحاق ـ وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير: لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل, وتاب الله عليهم بقتل بعضهم لبعض كما أمرهم الله به, أمر الله موسى أن يأتيه في كل أناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل وواعدهم موسى, فاختار موسى سبعين رجلاً على عينه, ثم ذهب بهم ليعتذروا, وساق البقية وهذا السياق يقتضي أن الخطاب توجه إلى بني إسرائيل في قوله {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} والمراد السبعون المختارون منهم ولم يحك كثير من المفسرين سواه, وقد أغرب الرازي في تفسيره حين حكى في قصة هؤلاء السبعين: أنهم بعد إحيائهم قالوا: يا موسى إنك لا تطلب من الله شيئاً إلا أعطاك, فادعه أن يجعلنا أنبياء, فدعا بذلك فأجاب الله دعوته, وهذا غريب جداً إذ لا يعرف في زمان موسى نبي سوى هارون ثم يوشع بن نون, وقد غلط أهل الكتاب أيضاً في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل, فإن موسى الكليم عليه السلام قد سأل ذلك فمنع منه فكيف يناله هؤلاء السبعون ؟
القول الثاني في الاَية: قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الاَية: قال لهم موسى لما رجع من عند ربه بالألواح قد كتب فيها التوراة فوجدهم يعبدون العجل, فأمرهم بقتل أنفسهم ففعلوا, فتاب الله عليهم, فقال: إن هذه الألواح فيها كتاب الله فيه أمركم الذي أمركم به ونهيكم الذي نهاكم عنه. فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت ؟ لا والله حتى نرى الله جهرة حتى يطلع الله علينا فيقول: هذا كتابي فخذوه, فما له لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى, وقرأ قول الله {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} قال: فجاءت غضبة من الله فجاءتهم صاعقة بعد التوبة فصعقتهم فماتوا أجمعون, قال: ثم أحياهم الله من بعد موتهم, وقرأ قول الله {ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون} فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله, فقالوا: لا, فقال: أي شيء أصابكم ؟ فقالوا: أصابنا أنا متنا ثم أحيينا, قال: خذوا كتاب الله, قالوا: لا, فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم. وهذا السياق يدل على أنهم كلفوا بعد ما أحيوا. وقد حكى الماوردي في ذلك قولين: أحدهما: أنه سقط التكليف عنهم لمعاينتهم الأمر جهرة حتى صاروا مضطرين إلى التصديق, والثاني: أنهم مكلفون لئلا يخلو عاقل من تكليف, قال القرطبي: وهذا هو الصحيح لأن معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم لأن بني إسرائيل قد شاهدوا أموراً عظاماً من خوارق العادات, وهم في ذلك مكلفون وهذا واضح, والله أعلم.

** وَظَلّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنّ وَالسّلْوَىَ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـَكِن كَانُوَاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم, شرع يذكرهم أيضاً بما أسبغ عليهم من النعم, فقال: {وظللنا عليكم الغمام} وهو جمع غمامة, سمي بذلك لأنه يغم السماء أي يواريها ويسترها, وهو السحاب الأبيض ظللوا به في التيه ليقيهم حر الشمس, كما رواه النسائي وغيره عن ابن عباس في حديث الفتون, قال: ثم ظلل عليهم في التيه بالغمام, قال ابن أبي حاتم وروي عن ابن عمر والربيع بن أنس وأبي مجلز والضحاك والسدي نحو قول ابن عباس, وقال الحسن وقتادة {وظللنا عليكم الغمام} كان هذا في البرية, ظلل عليهم الغمام من الشمس, وقال ابن جرير: قال آخرون: وهو غمام أبرد من هذا وأطيب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو حذيفة حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد {وظللنا عليكم الغمام} قال, ليس بالسحاب هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة ولم يكن إلا لهم. وهكذا رواه ابن جرير عن المثنى بن إبراهيم عن أبي حذيفة, وكذا رواه الثوري وغيره عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وكأنه يريد, والله أعلم, أن ليس من زي هذا السحاب بل أحسن منه وأطيب وأبهى منظراً, كما قال سنيد في تفسيره عن حجاج بن محمد عن ابن جريج, قال, قال ابن عباس {وظللنا عليكم الغمام} قال, غمام أبرد من هذا وأطيب وهو الذي يأتي الله فيه في قوله: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر. قال ابن عباس وكان معهم في التيه, وقوله تعالى: {وأنزلنا عليكم المن} اختلفت عبارات المفسرين في المن ما هو ؟ فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: كان المن ينزل عليهم على الأشجار, فيغدون إليه, فيأكلون منه ما شاؤوا. وقال مجاهد: المن: صمغة, وقال عكرمة: المن: شيء أنزله الله عليهم مثل الطل شبه الرّب الغليظ, وقال السدي, قالوا: يا موسى, كيف لنا بما ههنا, أي الطعام ؟ فأنزل الله عليهم المن, فكان يسقط على شجرة الزنجبيل, وقال قتادة: كان المن ينزل عليهم في محلهم سقوط الثلج أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل, يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس, يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك, فإذا تعدى ذلك فسد ولم يبق, حتى كان يوم سادسه يوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر معيشته ولا يطلبه لشيء, وهذا كله في البرية, وقال الربيع بن أنس: المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل فيمزجونه بالماء ثم يشربونه. وقال وهب بن منبه, وسئل عن المن, فقال, خبز رقاق مثل الذرة أو مثل النقى, وقال أبو جعفر بن جرير حدثني محمد بن إسحاق حدثنا أبو أحمد حدثناإسرائيل عن جابر عن عامر, وهو الشعبي, قال: عسلكم هذا جزء من سبعين جزءاً من المن, وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أنه العسل, ووقع في شعر أمية بن أبي الصلت حيث قال:
فرأى الله أنهم بمضيعلا بذي مزرع ولا مثمورافسناها عليهم غادياتوترىَ مزنهم خلايا وخوراعسلاً ناطفاً وماء فراتاوحليباً ذا بهجة مزمورا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://domoo3.own0.com/
RoMa
Admin
RoMa


عدد المساهمات : 1980
نقاط : 6051
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 04/09/2011
العمر : 29
الموقع : دموع عيون حبيبى

تفسير سورة البقرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة   تفسير سورة البقرة I_icon_minitimeالأحد أكتوبر 30, 2011 11:10 pm

فالناطف هو السائل والحليب المرمور الصافي منه, والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن, فمنهم من فسره بالطعام, ومنهم من فسره بالشراب, والظاهر, والله أعلم, أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك مما ليس لهم فيه عمل ولا كد, فالمن المشهور إن أُكل وحده كان طعاماً وحلاوة, وإن مزج مع الماء صار شراباً طيباً, وإن ركب مع غيره صار نوعاً آخر, ولكن ليس هو المراد من الاَية وحده, والدليل على ذلك قول البخاري: حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عبد الملك عن عمرو بن حريث عن سعيد بن زيد رضي الله عنه, قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين» وهذا الحديث رواه الامام أحمد عن سفيان بن عيينة عن عبد الملك وهو ابن عمير به, وأخرجه الجماعة في كتبهم إلا أبا داود من طرق عن عبد الملك وهو ابن عمير به, وقال الترمذي: حسن صحيح, ورواه البخاري ومسلم من رواية الحكم عن الحسن العرني عن عمرو بن حريث به, وقال الترمذي: حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر ومحمود بن غيلان, قالا: حدثنا سعيد بن عامر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العجوة من الجنة, وفيها شفاء من السم, والكمأة من المن, وماؤها شفاء للعين» تفرد بإخراجه الترمذي ثم قال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن عمرو وإلا من حديث سعيد بن عامر عنه, وفي الباب عن سعيد بن زيد وأبي سعيد وجابر ـ كذا قال ـ وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من طريق آخر عن أبي هريرة, فقال: حدثنا أحمد بن الحسن بن أحمد البصري, حدثنا أسلم بن سهل حدثنا القاسم بن عيسى حدثنا طلحة بن عبد الرحمن عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكمأة من المن, وماؤها شفاء للعين» وهذا حديث غريب من هذا الوجه وطلحة بن عبد الرحمن هذا السلمي الواسطي يكنى بأبي محمد وقيل: أبو سليمان المؤدب قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي: روى عن قتادة أشياء لا يتابع عليها. ثم قال الترمذي: حدثنا محمد بن بشار حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة: أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: الكمأة جدري الأرض فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم «الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم» وهذا الحديث قد رواه النسائي عن محمد بن بشار به, وعنه عن غندر عن شعبة عن أبي بشر جعفر بن أياس عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة به, وعن محمد بن بشار عن عبد الأعلى عن خالد الحذاء عن شهر بن حوشب بقصة الكمأة فقط. وروى النسائي أيضاً وابن ماجه من حديث محمد بن بشار عن أبي عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد عن مطر الوراق عن شهر: بقصة العجوة عند النسائي, وبالقصتين عند ابن ماجه, وهذه الطريق منقطعة بين شهر بن حوشب وأبي هريرة, فإنه لم يسمع منه بدليل ما رواه النسائي في الوليمة من سننه عن علي بن الحسين الدرهمي عن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي هريرة, قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يذكرون الكمأة وبعضهم يقول: جدري الأرض, فقال «الكمأة من المن, وماؤها شفاء للعين» وروي عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر كما قال الإمام أحمد: حدثنا أسباط بن محمد حدثنا الأعمش عن جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب عن جابر ابن عبد الله وأبي سعيد الخدري, قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الكمأة من المن, وماؤها شفاء للعين, والعجوة من الجنة, وهي شفاء من السم» وقال النسائي في الوليمة أيضاً: حدثنامحمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الكمأة من المن, وماؤها شفاء للعين» ثم رواه أيضاً وابن ماجه من طرق الأعمش عن أبي بشر عن شهر عنهما به, وقد رويا ـ أعني النسائي من حديث جرير وابن ماجه من حديث سعيد ابن أبي سلمة ـ كلاهما عن الأعمش عن جعفر بن إياس عن أبي نضرة عن أبي سعيد رواه النسائي وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الكمأة من المنّ وماؤها شفاء للعين» ورواه ابن مردويه عن أحمد بن عثمان عن عباس الدوري عن لاحق بن صواب عن عمار بن زريق عن الأعمش كابن ماجة, وقال ابن مردويه أيضاً: حدثنا أحمد بن عثمان حدثنا عباس الدوري حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي سعيد الخدري, قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كمآت, فقال «الكمأة من المن, وماؤها شفاء للعين» وأخرجه النسائي عن عمرو بن منصور عن الحسن بن الربيع به: ثم ابن مردويه رواه أيضاً عن عبد الله بن إسحاق عن الحسن بن سلام عن عبيد الله بن موسى, عن شيبان عن الأعمش به, وكذا رواه النسائي عن أحمد بن عثمان بن حكيم عن عبيد الله بن موسى, وقد روي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه, كما قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم حدثنا حمدون بن أحمد حدثنا حوثرة بن أشرس حدثنا حماد عن شعيب بن الحبحاب عن أنس: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تدارؤوا في الشجرة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها عن قرار, فقال بعضهم: نحسبه الكمأة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الكمأة من المن, وماؤها شفاء للعين, والعجوة من الجنة, وفيها شفاء من السم» وهذا الحديث محفوظ أصله من رواية حماد بن سلمة. وقد روى الترمذي والنسائي من طريقه شيئاً من هذا, والله أعلم. وروي عن شهر عن ابن عباس كما رواه النسائي أيضاً في الوليمة عن أبي بكر أحمد بن علي بن سعيد عن عبد الله بن عون الخراز عن أبي عبيدة الحداد عن عبد الجليل بن عطية عن شهر عن عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الكمأة من المن, وماؤها شفاء للعين» فقد اختلف كما ترى فيه شهر بن حوشب ويحتمل عندي أنه حفظه ورواه من هذه الطرق كلها, وقد سمعت من بعض الصحابة وبلغه عن بعضهم, فإن الأسانيد إليه جيدة, وهو لا يتعمد الكذب, وأصل الحديث محفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم من رواية سعيد بن زيد رضي الله عنه.
وأما السلوى, فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: السلوى طائر شبه بالسماني, كانوا يأكلون منه. وقال السدي في خبره, ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: السلوى طائر يشبه السماني, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا عبد الصمد بن الوارث حدثنا قرة بن خالد عن جهضم عن ابن عباس, قال: السلوى هو السماني, وكذا قال مجاهد والشعبي والضحاك والحسن وعكرمة والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى, وعن عكرمة أما السلوى فطير كطير يكون بالجنة أكبر من العصفور أو نحو ذلك, وقال قتادة: السلوى كان من طير أقرب إلى الحمرة تحشرها عليهم الريح الجنوب وكان الرجل يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه لأنه كان يوم عبادة لا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه, وقال وهب بن منبه: السلوى طير سمين مثل الحمامة كان يأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى سبت وفي رواية عن وهب قال سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام لحماً فقال الله لأطعمنهم من أقل لحم يعلم في الأرض فأرسل عليهم ريحاً فأذرت عند مساكنهم السلوى وهو السماني مثل ميل في ميل قيد رمح في السماء فخبأوا للغد فنتن اللحم وخنز الخبز, وقال السدي لما دخل بنو إسرائيل التيه قالوا لموسى عليه السلام كيف لنا بما ههنا أين الطعام ؟ فأنزل الله عليهم المن فكان ينزل على شجر الزنجبيل, والسلوى وهو طائر شبه السماني أكبر منه فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير فإن كان سميناً ذبحه وإلا أرسله فإذا سمن أتاه فقالوا: هذا الطعام. فأين الشراب ؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً فشرب كل سبط من عين, فقالوا: هذا الشراب فأين الظل ؟ فظلل عليهم الغمام, فقالوا: هذا الظل فأين اللباس ؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان ولا يخترق لهم ثوب, فذلك قوله تعالى {وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى} وقوله: {وإذا استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين} وروي عن وهب بن منبه وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ما قاله السدي, وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج قال: قال ابن عباس خلق لهم في التيه ثياب لا تخرق ولا تدرن, قال ابن جريج, فكان الرجل إذا أخذ من المن والسلوى فوق طعام يوم فسد إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت فلا يصبح فاسداً, قال ابن عطية السلوى طير بإجماع المفسرين وقد غلط الهذلي في قوله أنه العسل وأنشد في ذلك مستشداً:
وقاسمها بالله جهداً لأنتمألذ من السلوى إذا ما أشورها

قال فظن أن السلوى عسلاً, قال القرطبي: دعوى الإجماع لا تصح لأن المؤرخ أحد علماء اللغة والتفسير قال إنه العسل واستدل ببيت الهذلي وهذا وذكر أنه كذلك في لغة كنانة لأنه يسلي به ومنه عين سلوان, وقال الجوهري: السلوى العسل واستشهد ببيت الهذلي أيضاً, والسلوانة بالضم خرزة كانوا يقولون إذا صب عليها ماء المطر فشربها العاشق سلا, قال الشاعر:
شربت على سلوانة ماء مزنةفلا وجديد العيش يامي ما أسلو

واسم ذلك الماء السلوان, وقال بعضهم السلوان دواء يشفي الحزين فيسلوا والأطباء يسمونه (مفرج), قالوا والسلوى جمع بلفظ الواحد أيضاً كما يقال: سماني للمفرد والجمع وويلي كذلك, وقال الخليل واحده سلواة, وأنشد:
وإني لتعروني لذكراك هزةكما انتقض السلواة من بلل القطر

وقال الكسائي: السلوى واحدة وجمعه سلاوي, نقله كله القرطبي, وقوله تعالى: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} أمر إباحة وإرشاد وامتنان, وقوله تعالى: {وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} أي أمرناهم بالأكل مما رزقناهم وأن يعبدوا كما قال {كلوا من رزق ربكم واشكروا له} فخالفوا وكفروا فظلموا أنفسهم هذا مع ما شاهدوه من الاَيات البينات والمعجزات القاطعات, وخوراق العادات, ومن ههنا تتبين فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم على سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وثباتهم وعدم تعنتهم مع ما كانوا معه في أسفاره وغزواته منها عام تبوك في ذلك القيظ والحر الشديد والجهد لم يسألوا خرق عادة ولا إيجاد أمر مع أن ذلك كان سهلاً على النبي صلى الله عليه وسلم لكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم فجاء قدر مبرك الشاة فدعا الله فيه وأمرهم فملؤوا كل وعاء معهم وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله تعالى فجاءتهم سحابة فأمطرتهم فشربوا وسقوا الإبل وملؤوا أسقيتهم ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر. فهذا هو الأكمل في اتباع الشيء مع قدر الله مع متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.


** وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجّداً وَقُولُواْ حِطّةٌ نّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مّنَ السّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ
يقول تعالى لائما على نكولهم عن الجهاد ودخولهم الأرض المقدسة لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى عليه السلام فأمروا بدخول الأرض المقدسة التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل وقتال من فيها من العماليق الكفرة فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا فرماهم الله في التيه عقوبة لهم كما ذكره تعالى في سورة المائدة, ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس كما نص على ذلك السدي والربيع بن أنس وقتادة وأبو مسلم الأصفهاني وغير واحد وقد قال الله تعالى حاكياً عن موسى {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا} الاَيات. وقال آخرون هي أريحاء, ويحكى عن ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد وهذا بعيد لأنها ليست على طريقهم وهم قاصدون بيت المقدس لا أريحاء, وأبعد من ذلك قول من ذهب إلى أنها مصر, حكاه الرازي في تفسيره, والصحيح الأول أنها بيت المقدس, وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون عليه السلام وفتحها الله عليهم عشية جمعة وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلاً حتى أمكن الفتح, ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب باب البلد {سجداً} أي شكراً لله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر ورد بلدهم عليهم وإنقاذهم من التيه والضلال, قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله تعالى {وادخلوا الباب سجداً} أي ركعاً, وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا سفيان عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله {وادخلوا الباب سجداً} قال ركعاً من باب صغير, رواه الحاكم من حديث سفيان به, ورواه ابن أبي حاتم من حديث سفيان وهو الثوري به وزاد فدخلوا من قبل أستاههم, وقال الحسن البصري: أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم واستبعده الرازي, وحكي عن بعضهم أن المراد ههنا بالسجود الخضوع لتعذر حمله على حقيقته, وقال خصيف: قال عكرمة قال ابن عباس: كان الباب قبل القبلة, وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة والضحاك هو باب الحطة من باب إيلياء بيت المقدس, وحكى الرازي عن بعضهم أنه عني بالباب جهة من جهات القبلة, وقال خصيف قال عكرمة قال ابن عباس فدخلوا على شق, وقال السدي عن أبي سعيد الأزدي عن أبي الكنود عن عبد الله بن مسعود قيل لهم ادخلوا الباب سجّداً فدخلوا مقنعي رؤوسهم أي رافعي رؤوسهم خلاف ما أمروا, وقوله تعالى: {وقولوا حطة} قال الثوري عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {وقولوا حطة} قال مغفرة استغفروا, وروي عن عطاء والحسن وقتادة والربيع بن أنس نحوه, وقال الضحاك عن ابن عباس {وقولوا حطة} قال: قولوا هذا الأمر حق كما قيل لكم, وقال عكرمة قولوا {لا إله إلا الله} وقال الأوزاعي: كتب ابن عباس إلى رجل قد سماه فسأله عن قوله تعالى {وقولوا حطة} فكتب إليه أن أقروا بالذنب, وقال الحسن وقتادة أي أحطط عنا خطايانا {نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين} وقال: هذا جواب الأمر أي إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكن الخطيئات وضاعفنا لكم الحسنات وحاصل الأمر أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها والشكر على النعمة عندها والمبادرة إلى ذلك من المحبوب عند الله تعالى كما قال تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً} فسره بعض الصحابة بكثرة الذكر والاستغفار عند الفتح والنصر, وفسره ابن عباس بأنه نعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله فيها وأقره على ذلك عمر رضي الله عنه, ولا منافاة بين أن يكون قد أمر بذلك عند ذلك ونعى إليه روحه الكريمة أيضاً, ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يظهر عليه الخضوع جداً عند النصر كما روى أنه كان يوم الفتح فتح مكة داخلاً إليها من الثنية العليا وأنه لخاضع لربه حتى أن عثنونه ليمس مورك رحله شكراً لله على ذلك, ثم لما دخل البلد اغتسل وصلى ثماني ركعات وذلك ضحى, فقال بعضهم: هذه صلاة الضحى, وقال آخرون بل هي صلاة الفتح فاستحبوا للإمام وللأمير إذا فتح بلداً أن يصلي فيه ثماني ركعات عند أول دخوله كما فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما دخل إيوان كسرى صلى فيه ثماني ركعات والصحيح أنه يفصل بين كل ركعتين بتسليم, وقيل يصليها كلها بتسليم واحد, والله أعلم.
وقوله تعالى: {فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم} قال البخاري حدثني محمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن ابن المبارك عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: «قيل لبني اسرائيل ادخلوا الباب سجداً قولوا حطة ـ فدخلوا يزحفون على أستاههم فبدلوا وقالوا حبة في شعرة» ورواه النسائي عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم عن عبد الرحمن به موقوفاً وعن محمد بن عبيد بن محمد عن ابن المبارك ببعضه مسنداً في قوله تعالى:: {حطة} قال: فبدلوا وقالوا حبة, وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله لبني إسرائيل: {ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم} فبدلوا ودخلوا الباب يزحفون على أستاههم فقالوا حبة في شعرة» وهذا حديث صحيح رواه البخاري عن إسحاق بن نصر ومسلم عن محمد بن رافع والترمذي عن عبد بن حميد كلهم عن عبد الرازق به, وقال الترمذي: حسن صحيح, وقال محمد بن إسحاق: كان تبديلهم كما حدثني صالح بن كيسان عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة وعمن لا أتهم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «دخلوا الباب ـ الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجداً ـ يزحفون على أستاههم وهم يقولون حنطة في شعيرة» وقال أبو داود حدثنا أحمد بن صالح وحدثنا سليمان بن سليمان بن داود حدثنا عبد الله بن وهب حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «قال الله لبني إسرائيل {ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم} ثم قال أبو داود حدثنا أحمد بن مسافر حدثنا ابن أبي فديك عن هشام بمثله, هكذا رواه منفرداً به في كتاب الحروف مختصراً, وقال ابن مردويه حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا إبراهيم بن مهدي حدثنا أحمد بن المنذر القزاز حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري, قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من آخر الليل أجزنا في ثنية يقال لها ذات الحنظل, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مثل هذه الثنية الليلة إلا كمثل الباب الذي قال الله لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم» وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن البراء: {سيقول السفهاء من الناس} قال اليهود: قيل لهم ادخلوا الباب سجداً قال: ركعاً, وقولوا حطة أي مغفرة, فدخلوا على أستاههم وجعلوا يقولون حنطة حمراء فيها شعيرة, فذلك قول الله تعالى: {فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم} وقال الثوري عن السدي عن أبي سعد الأزدي عن أبي الكنود عن ابن مسعود وقولوا حطة, فقالوا حنطة, حبة حمراء فيها شعيرة, فأنزل الله: {فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم} وقال أسباط عن السدي عن مرة عن ابن مسعود أنه قال: إنهم قالوا هطا سمعاتا أزبة مزبا, فهي بالعربية حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعرة سوداء فذلك قوله تعالى: {فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم} وقال الثوري عن الأعمش عن المنهال عن سعيد عن ابن عباس في قوله تعالى: {ادخلوا الباب سجداً} قال ركعاً من باب صغير, فدخلوا من قبل أستاههم وقالوا حنطة, فذلك قوله تعالى: {فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم} وهكذا روي عن عطاء ومجاهد وعكرمة والضحاك والحسن وقتادة والربيع بن أنس ويحيى بن رافع. وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق أنهم بدلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل فأمروا أن يدخلوا سجداً فدخلوا يزحفون على أستاههم من قبل أستاههم رافعي رؤوسهم وأمروا أن يقولوا حطة أي أحطط عنا ذنوبنا وخطايانا, فاستهزؤوا فقالوا حنطة في شعيرة, وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم وهو خروجهم عن طاعته. ولهذا قال: {فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون} وقال الضحاك عن ابن عباس: كل شيء في كتاب الله من الرجز يعني به العذاب, وهكذا روي عن مجاهد وأبي مالك والسدي والحسن وقتادة أنه العذاب وقال أبو العالية الرجز الغضب, وقال الشعبي: الرجز إما الطاعون وإما البرد, وقال سعيد بن جبير هو الطاعون, وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن إبراهيم بن سعد يعني ابن أبي وقاص عن سعد بن مالك وأسامة بن زيد وخزيمة بن ثابت رضي الله عنهم, قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطاعون رجز عذاب عذب به من كان قبلكم» وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان الثوري به, وأصل الحديث في الصحيحين من حديث حبيب بن أبي ثابت «إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها» الحديث, قال ابن جرير أخبرني يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن يونس عن الزهري, قال أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا الوجع والسقم رجز عُذب به بعض الأمم قبلكم» وهذا الحديث أصله مخرج في الصحيحين من حديث مالك عن محمد بن المنكدر وسالم بن أبي النضر عن عامر بن سعد بنحوه.


** وَإِذِ اسْتَسْقَىَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلّ أُنَاسٍ مّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رّزْقِ اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إجابتي لنبيكم موسى عليه السلام حين استسقاني لكم وتيسيري لكم الماء وإخراجه لكم من حجر معكم وتفجيري الماء لكم منه من إثنتي عشرة عيناً لكل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها فكلوا من المن والسلوى واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم بلا سعي منكم ولاكد واعبدوا الذي سخر لكم ذلك: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} ولا تقابلوا النعم بالعصيان فتسلبوها. وقد بسطه المفسرون في كلامهم كما قال ابن عباس رضي الله عنه وجعل بين ظهرانيهم حجر مربع وأمر موسى عليهالسلام فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً في كل ناحية منه ثلاث عيون وأعلم كل سبط عينهم يشربون منها لا يرتحلون من منقلة إلا وجدوا ذلك معهم بالمكان الذي كان منهم بالمنزل الأول, وهذا قطعة من الحديث الذي رواه النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وهو حديث الفتون الطويل. وقال عطية العوفي: وجعل لهم حجراً مثل رأس الثور يحمل على ثور فإذا نزلوا منزلاً وضعوه فضربه موسى عليه السلام بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً فإذا ساروا حملوه على ثور فاستمسك الماء وقال عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه: كان لبني اسرائيل حجر فكان يضعه هارون ويضربه موسى بالعصا, وقال قتادة: كان حجراً طورياً من الطور يحملونه معهم حتى إذا نزلوا ضربه موسى بعصاه, وقال الزمخشري وقيل كان من الرخام وكان ذراعاً في ذراع وقيل مثل رأس الإنسان وقيل كان من الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى وله شعبتان تتقدان في الظلمة وكان يحمل على حمار, قال: وقيل اهبطه آدم من الجنة فتوارثوه حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا وقيل هوالحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل, فقال له جبريل: ارفع هذا الحجر فإن فيه قدرة ولك فيه معجزة فحمله في مخلاته قال الزمخشري: ويحتمل أن تكون اللام للجنس لا للعهد أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر, وعن الحسن لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه, قال: وهذا أظهر في المعجزة وأبين في القدرة فكان يضرب الحجر بعصاه فينفجر ثم يضربه فييبس, فقالوا إن فقد موسى هذا الحجر عطشنا, فأوحى الله إليه أن يكلم الحجارة فتنفجر ولا يمسها بالعصا لعلهم يقرون, والله أعلم, وقال يحيى بن النضر: قلت لجويبر: كيف علم كل أناس مشربهم ؟ قال: كان موسى يضع الحجر ويقوم من كل سبط رجل ويضرب موسى الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عيناً فينضح من كل عين على رجل فيدعو ذلك الرجل سبطه إلى تلك العين, وقال الضحاك: قال ابن عباس لما كان بنو اسرائيل في التيه شق لهم من الحجر أنهاراً, وقال الثوري عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس: قال ذلك في التيه ضرب لهم موسى الحجر فصار منه اثنتا عشرة عيناً من ماء لكل سبط منهم عين يشربون منها, وقال مجاهد نحو قول ابن عباس وهذه القصة شبيهة بالقصة التي في سورة الأعراف ولكن تلك مكية, فلذلك كان الإخبار عنهم بضمير الغائب لأن الله تعالى يقص على رسوله صلى الله عليه وسلم ما فعل لهم. وأما في هذه السورة ـ وهي البقرة ـ فهي مدنية, فلهذا كان الخطاب فيها متوجهاً إليهم,. وأخبر هناك بقوله: {فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً} وهو أول الانفجار, وأخبر ههنا بماآل إليه الحال آخراً وهو الانفجار فناسب ذكر الانفجار ههنا وذاك هناك, والله أعلم, وبين السياقين تباين من عشرة أوجه لفظية ومعنوية قد سأل عنها الزمخشري في تفسيره وأجاب عنها بما عنده, والأمر في ذلك قريب. والله أعلم.

** وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىَ لَن نّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي هُوَ أَدْنَىَ بِالّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنّ لَكُمْ مّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مّنَ اللّهِ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وّكَانُواْ يَعْتَدُونَ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىَ لَن نّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي هُوَ أَدْنَىَ بِالّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنّ لَكُمْ مّا سَأَلْتُمْ يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى طعاماً طيباً نافعاً هنيئاً سهلاً واذكروا دبركم وضجركم مما رزقناكم وسؤالكم موسى استبدال ذلك بالأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها مما سألتم قال الحسن البصري: فبطروا ذلك فلم يصبروا عليه, وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه, وكانوا قوماً أهل أعداس وبصل وبقول وفوم فقالوا: {ياموسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها} وإنما قالوا على طعام واحد وهم يأكلون المن والسلوى لأنه لا يتبدل ولا يتغير كل يوم, فهو مأكل واحد: فالبقول والقثاء والعدس والبصل كلها معروفة, وأما الفوم, فقد اختلف السلف في معناه, فوقع في قراءة ابن مسعود وثومها بالثاء, وكذا فسره مجاهد في رواية ليث بن أبي سليم عنه, بالثوم. وكذا الربيع بن أنس وسعيد بن جبير, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عمرو بن رافع, حدثنا أبو عمارة يعقوب بن إسحاق البصريو عن يونس, عن الحسن, في قوله: {وفومها} قال: قال ابن عباس: الثوم, قال وفي اللغة القديمة: فوموا لنا بمعنى اختبزوا, قال ابن جرير: فإن كان ذلك صحيحاً, فإنه من الحروف المبدلة كقولهم: وقعوا في عاثور شر وعافور شر, وأثافي وأثاثي, ومغافير ومغاثير وأشباه ذلك مما تقلب الفاء ثاء والثاء فاء لتقارب مخرجيهما, والله أعلم. وقال آخرون: الفوم الحنطة, وهو البر الذي يعمل منه الخبز قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة, أنبانا ابن وهب قراءة حدثني نافع بن أبي نعيم أن ابن عباس: سُئل عن قول الله: {وفومها} مافومها ؟ قال الحنطة. قال ابن عباس: أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح, وهو يقول:
قد كنت أغني الناس شخصاً واحداًورد المدينة عن زراعة فوم

وقال ابن جرير: حدثنا علي بن الحسن, حدثنا مسلم الجهني, حدثنا عيسى بن يونس, عن رشيد بن كريب, عن أبيه, عن ابن عباس, في قوله تعالى: {وفومها} قال: الفوم الحنطة بلسان بني هاشم, وكذا قال علي بن أبي طلحة والضحاك وعكرمة عن ابن عباس: أن الفوم الحنطة, وقال سفيان الثوري عن ابن جريج عن مجاهد وعطاء {وفومها} قالا: وخبزها, وقال هشيم عن يونس عن الحسين وحصين عن أبي مالك {وفومها} قال: الحنطة, وهو قول عكرمة والسدي والحسن البصري وقتادة وعبد الرحمن بن يزيد بن أسلم وغيرهم, فالله أعلم, وقال الجوهري: الفوم: الحنطة, وقال ابن دريد: الفوم: السنبلة, وحكى القرطبي عن عطاء وقتادة: أن الفوم كل حب يختبز. قال: وقال بعضهم: هو الحمص, لغة شامية, ومنه يقال لبائعه: فامي, مغير عن فومي, قال البخاري: وقال بعضهم الحبوب التي تؤكل كلها فوم وقوله تعالى: {قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنيئة مع ما هم فيه من العيش الرغيد والطعام الهنيء الطيب النافع, وقوله تعالى: {اهبطوا مصراً} هكذا هو منون مصروف, مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية وهو قراءة الجمهور بالصرف. وقال ابن جرير: ولا أستجيز القراءة بغير ذلك لإجماع المصاحف على ذلك. وقال ابن عباس {اهبطوا مصراً} قال: مصر من الأمصار, رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي سعيد البقال سعيد بن المرزبان عن عكرمة عنه قال: وروي عن السدي وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك, وقال ابن جرير: وقع في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود {اهبطوا مصر} من غير إجراء, يعني من غير صرف ثم روي عن أبي العالية والربيع بن أنس أنهما فسرا ذلك بمصر فرعون, وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية والربيع وعن الأعمش أيضاً قال وابن جرير: ويحتمل أن يكون المراد: مصر فرعون على قراءة الإجراء أيضاً. ويكون ذلك من باب الإتباع لكتابة المصحف كما في قوله تعالى: {قواريراً قواريرا} ثم توقف في المراد ما هو أمصر فرعون أم مصر من الأمصار ؟ وهذا الذي قاله فيه نظر, والحق أن المراد: مصر من الأمصار كما روي عن ابن عباس وغيره, والمعنى على ذلك لأن موسى عليه السلام يقول لهم: هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز بل هو كثير في أي بلد دخلتموها وجدتموه, فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه. ولهذا قال: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم} أي ما طلبتم, ولما كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه لم يجابوا إليه والله أعلم.
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مّنَ اللّهِ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
يقول تعالى: {وضربت عليهم الذلة والمسكنة} أي وضعت عليهم وألزموا بها شرعاً وقدراً أي لا يزالون مستذلين, من وجدهم استذلهم وأهانهم وضرب عليهم الصغار, وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء متمسكنون. قال الضحاك, عن ابن عباس: {وضربت عليهم الذلة والمسكنة} قال: هم أصحاب النيالات يعني الجزية. وقال عبد الرزاق, عن معمر, عن الحسن, وقتادة في قوله تعالى: {وضربت عليهم الذلة} قال: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون, وقال الضحاك: وضربت عليه الذلة , قال: الذل. وقال الحسن: أذلهم الله فلا منعة لهم, وجعلهم تحت أقدام المسلمين ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية, وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي: المسكنة الفاقة, وقال عطية العوفي: الخراج, وقال الضحاك: الجزية, وقوله تعالى: {وباؤوا بغضب من الله} قال الضحاك: استحقوا الغضب من الله, وقال الربيع بن أنس: فحدث عليهم غضب من الله, وقال سعيد بن جبير: {وباؤوا بغضب من الله} يقول: استوجبوا سخطاً, وقال ابن جرير: يعني بقوله: {وباؤوا بغضب من الله} انصرفوا ورجعوا, ولا يقال: باء إلا موصولاً إما بخير وإما بشر يقال من: باء فلان بذنبه يبوء به بوءاً وبواء, ومنه قوله تعالى: {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك} يعني تنصرف متحملهما وترجع بهما قد صارا عليك دوني. فمعنى الكلام: إذا رجعوا منصرفين متحملين غضب الله قد صار عليهم من الله غضب, ووجب عليهم من الله سخط. وقوله تعالى: {ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله, ويقتلون النبيين بغير الحق} يقول تعالى: هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة, وإحلال الغضب بهم من الذلة, بسبب استكبارهم عن اتباع الحق وكفرهم بآيات الله, وإهانتهم حملة الشرع, وهم الأنبياء وأتباعهم, فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم, فلا كفر أعظم من هذا, إنهم كفروا بآيات الله, وقتلوا أنبياء الله بغير الحق, ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الكبر بطر الحق وغمط الناس» وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا إسماعيل, عن ابن عون, عن عمرو بن سعيد, عن حميد بن عبد الرحمن, قال: قال ابن مسعود: كنت لا أحجب عن النجوى, ولا عن كذا ولا عن كذا, فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي, فأدركته من آخر حديثه وهو يقول: يا رسول الله, قد قسم لي من الجمال ما ترى, فما أحب أن أحداً من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما,أليس ذلك هو البغي ؟ فقال: «لا ليس ذلك من البغي ولكن البغي من بطر, أو قال: سفه الحق وغمط الناس» يعني رد الحق, وانتقاص الناس, والازدراء بهم, والتعاظم عليهم, ولهذا لما ارتكب بنو إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات الله, وقتلهم أنبياءه, أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد, وكساهم ذلاً في الدنيا موصولاً بذل الاَخرة جزاء وفاقاً, قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن أبي معمر, عن عبد الله بن مسعود, قال: كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلثمائة نبي, ثم يقيمون سوق بقلهم من آخر النهار, وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد, حدثنا أبان, حدثنا عاصم, عن أبي وائل عن عبد الله يعني ابن مسعود, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتله نبي أوقتل نبياً وإمام ضلالة وممثل من الممثلين} وقوله تعالى: {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} وهذه علة أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به أنهم كانوا يعصون ويعتدون فالعصيان فعل المناهي, والاعتداء المجاوزة في حد المأذون فيه والمأمور به, والله أعلم.


** إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالنّصَارَىَ وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
لما بيّن تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره وتعدى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم وما أحل بهم من النكال, نبه تعالى على أن من أحسن من الأمم السالفة وأطاع فإن له جزاء الحسنى, وكذلك الأمر إلى قيام الساعة كل من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه كما قال تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عمر بن أبي عمر العدني حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قال سلمان رضي الله عنه: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم, فذكرت من صلاتهم وعبادتهم, فنزلت {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الاَخر} إلى آخر الاَية, وقال السدي {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الاَخر وعمل صالحاً} الاَية, نزلت في أصحاب سلمان الفارسي بينا هو يحدث النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم, فقال كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون لك ويشهدون أنك ستبعث نبيا, فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم «يا سلمان هم من أهل النار», فاشتد ذلك على سلمان فأنزل الله هذه الاَية وفكان إيمان اليهود أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى عليه السلام حتى جاء عيسى فلما جاء كان من تمسك بالتوارة وأخذ بسنة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكاً وإيمان النصارى أن من تمسك بالانجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمناً مقبولاً منه حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم, فمن لم يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكاً. قال ابن أبي حاتم, وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا, قلت وهذا لا ينافي ما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الاَخر} الاَية ـ قال ـ فأنزل الله بعد ذلك {ومن يتبع غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الاَخرة من الخاسرين} فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملاً إلا ما كان موافقاً لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه بما بعثه به, فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة, فاليهود أتباع موسى عليه السلام الذين كانوا يتحاكمون إلى التوارة في زمانهم. واليهود من الهوادة وهي المودة, أو التهود وهي التوبة, كقول موسى عليه السلام {إنا هدنا إليك} أي تبنا, فكأنهم سموا بذلك في الأصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض, وقيل: لنسبتهم إلى يهودا أكبر أولاد يعقوب, وقال أبو عمرو بن العلاء: لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوارة, فلما بعث عيسى صلى الله عليه وسلم وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له, فأصحابه وأهل دينه هم النصارى, سموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم, وقد يقال لهم أنصار أيضاً, كما قال عيسى عليه السلام {من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله} وقيل: إنهم إنما سموا بذلك من أجل أنهم نزلوا أرضاً يقال لها ناصرة, قاله قتادة وابن جريج, وروي عن ابن عباس أيضاً, والله أعلم. والنصارى جمع نصران, كنشاوى جمع نشوان, وسكارى جمع سكران, ويقال للمرأة نصرانة وقال الشاعر:
* نصرانة لم تحَذّف*

فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم خاتماً للنبيين, ورسولاً إلى بني آدم على الإطلاق, وجب عليهم تصديقه فيما أخبر. وطاعته فيما أمر, والانكفاف عما عنه زجر, وهؤلاء هم المؤمنون حقاً وسميت أمة محمد صلى الله عليه وسلم مؤمنين لكثرة إيمانهم, وشدة إيقانهم ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب الاَتية, وأماالصابئون فقد اختلف فيهم, فقال سفيان الثوري, عن ليث بن أبي سليم, عن مجاهد, قال: الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى و ليس لهم دين, وكذا رواه ابن أبي نجيح عنه, وروي عن عطاء وسعيد بن جبير نحو ذلك وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي وأبو الشعثاء, جابر بن زيد, والضحاك وإسحاق بن راهويه: الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور, ولهذا قال أبو حنيفة وإسحاق: لا بأس بذبائحم ومناكحتهم, وقال هشيم, عن مطرف: كنا عند الحكم بن عتبة, فحدثه رجل من أهل البصرة عن الحسن أنه كان يقول في الصابئين: إنهم كالمجوس فقال الحكم, ألم أخبركم بذلك, وقال عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن عبد الكريم: سمعت الحسن ذكر الصابئين فقال: هم قوم يعبدون الملائكة, وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى, حدثنا المعتمر بن سليمان, عن أبيه, عن الحسن, قال: أخبر زياد أن الصابئين يصلون إلى القبلة, ويصلون الخمس قال: فأراد أن يضع عنهم الجزية, قال: فخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة, وقال أبو جعفر الرازي: بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة, ويقرؤون الزبور ويصلون للقبلة, وكذا قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, أخبرنا ابن وهب, أخبرني ابن أبي الزناد عن أبيه قال: الصابئون قوم مما يلي العراق وهم بكوثى, وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ويصومون من كل سنة ثلاثين يوماً, ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات وسئل وهب بن منبه عن الصابئين فقال: الذي يعرف الله وحده وليست له شريعة يعمل بها ولم يحدث كفراً, وقال عبد الله بن وهب: قال عبد الرحمن بن زيد: الصابئون أهل دين من الأديان, كانوا بجزيرة الموصل, يقولون: لا إله إلا الله, وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول لا إله إلا الله, قال: ولم يؤمنوا برسول فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هؤلاء الصابئون يشبهونهم بهم, يعني في قول لا إله إلا الله, وقال الخليل: هم قوم يشبه دينهم دين النصارى إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب, يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام, وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن وابن نجيح, أنهم قوم تركب دينهم بين اليهود والمجوس, ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم, قال القرطبي: والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض العلماء أنهم موحدون ويعتقدون تأثير النجوم, وأنها فاعلة, ولهذا أفتى أبو سعيد الإصطخري بكفرهم للقادر بالله حين سأله عنهم واختار الرازي أن الصابئين قوم يعبدون الكواكب بمعنى أن الله جعلها قبلة للعبادة والدعاء, أو بمعنى أن الله فوض تدبير أمر هذا العالم إليها, قال وهذا القول هو المنسوب إلى الكثرابنين الذين جاءهم إبراهيم عليه السلام راداً عليهم ومبطلاً لقولهم وأظهر الأقوال والله أعلم, قول مجاهد ومتابعيه ووهب بن منبه: أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين, وإنما هم باقون على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتنونه, ولهذا كان المشركون ينبزون من أسلم بالصابىء, أي أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الأرض إذ ذلك. وقال بعض العلماء: الصابئون الذين لم تبلغهم دعوة نبي, والله أعلم.


** وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطّورَ خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ * ثُمّ تَوَلّيْتُمْ مّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مّنَ الْخَاسِرِينَ
يقول تعالى مذكراً بني إسرائيل ما أخد عليهم من العهود والمواثيق بالإيمان به وحده لا شريك له, واتباع رسله, وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق, رفع الجبل فوق رؤوسهم ليقروا بما عوهدوا عليه, ويأخذوه بقوة وجزم وامتثال, كما قال تعالى: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون} فالطور هو الجبل كما فسره به في الأعراف, ونص على ذلك ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن والضحاك والربيع بن أنس وغير واحد, وهذا ظاهر, في رواية عن ابن عباس الطور ما أنبت من الجبال, وما لم ينبت فليس بطور, وفي حديث الفتون عن ابن عباس أنهم لما امتنعوا عن الطاعة رفع عليهم الجبل ليسمعوا وقال السدي: فلما أبوا أن يسجدوا أمر الله الجبل أن يقع عليهم فنظروا إليه وقد غشيهم فسقطوا سجداً فسجدوا على شق ونظروا بالشق الاَخر فرحمهم الله فكشفه عنهم, فقالوا والله ما سجدة أحب إلى اللهمن سجدة كشف بها العذاب عنهم فهم يسجدون كذلك, وذلك قول الله تعالى {ورفعنا فوقكم الطور} وقال الحسن في قوله {خذوا ما آتيناكم بقوة} يعني التوارة وقال أبو العالية والربيع بن أنس: بقوة أي بطاعة, وقال مجاهد بقوة بعمل ما فيه, وقال قتادة {خذوا ما آتيناكم بقوة} القوة: الجد وإلا قذفته عليكم, قال: فأقروا بذلك أنهم يأخذون ما أوتوا به بقوة, ومعنى قوله وإلا قذفته عليكم أي أسقطته عليكم, يعني الجبل, وقال أبو العالية والربيع {واذكروا ما فيه} يقول: اقرؤوا ما في التوارة واعملوا به, وقوله تعالى {ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله} يقول تعالى: ثم بعد هذا الميثاق المؤكد العظيم توليتم عنه وانثنيتهم ونقضتموه {فلولا فضل الله عليكم ورحمته} أي بتوبته عليكم وإرساله النبيين والمرسلين إليكم {لكنتم من الخاسرين} بنقضكم ذلك الميثاق في الدنيا والاَخرة.


** وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الّذِينَ اعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي السّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لّلْمُتّقِينَ
يقول تعالى: {ولقد علمتم} يا معشر اليهود ما أحل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر الله وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره إذ كان مشروعاً لهم, فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الشصوص والحبائل والبرك قبل يوم السبت فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل, فلم تخلص منها يومها ذلك, فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت, فلما فعلوا ذلك, مسخهم الله إلى صورة القردة وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليست بإنسان حقيقة وفكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن, كان جزاؤهم من جنس عملهم وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف حيث يقول تعالى: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون} القصة بكمالها, وقال السدي: أهل هذه القرية هم أهل أيله, وكذا قال قتادة, وسنورد أقوال المفسرين
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://domoo3.own0.com/
RoMa
Admin
RoMa


عدد المساهمات : 1980
نقاط : 6051
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 04/09/2011
العمر : 29
الموقع : دموع عيون حبيبى

تفسير سورة البقرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة   تفسير سورة البقرة I_icon_minitimeالأحد أكتوبر 30, 2011 11:12 pm

** قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَيّنَ لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ لاّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَيّن لّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِـعٌ لّوْنُهَا تَسُرّ النّاظِرِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَيّن لّنَا مَا هِيَ إِنّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنّآ إِن شَآءَ اللّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ لاّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلّمَةٌ لاّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الاَنَ جِئْتَ بِالْحَقّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ
أخبر تعالى عن تعنت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم, لهذا لما ضيقوا على أنفسهم ضيق الله عليهم, ولو أنهم ذبحوا أي بقرة كانت لوقعت الموقع عنهم, كما قال ابن عباس وعبيدة وغير واحد, ولكنهم شددوا فشدد عليهم فقالوا: {ادع لنا ربك يبين لنا ما هي} أي ما هذه البقرة وأي شيء صفتها, قال ابن جرير, حدثنا أبو كريب, حدثنا ثمّام بن علي, عن الأعمش, عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها, ولكنهم شددوا فشدد عليهم ـ اسناد صحيح ـ وقد رواه غير واحد عن ابن عباس, وكذا قال عبيدة والسدي ومجاهد وعكرمة وأبو العالية وغير واحد, وقال ابن جريج: قال لي عطاء: لو أخذوا أدنى بقرة لكفتهم, قال ابن جريج: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أمروا بأدنى بقرة ولكنهم لما شددوا شدد الله عليهم وايم الله لو أنهم لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد» قال: {إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر} أي لا كبيرة هرمة ولا صغيرة لم يلحقها الفحل, كما قاله أبو العالية والسدي ومجاهد وعكرمة وعطية العوفي وعطاء الخراساني ووهب بن منبه والضحاك والحسن وقتادة, وقاله ابن عباس أيضاً, وقال الضحاك عن ابن عباس: عوان بين ذلك, يقول نصف بين الكبير والصغيرة, وهي أقوى ما يكون من الدواب والبقر, وأحسن ما تكون, وروي عن عكرمة ومجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وعطاء الخراساني والضحاك نحو ذلك, وقال السدي: العوان: النصف التي بين ذلك التي قد ولدت وولد ولدها, وقال هشيم, عن جويبر, عن كثير بن زياد, عن الحسن في البقرة: كانت بقرة وحشية, وقال ابن جريج, عن عطاء, عن ابن عباس: من لبس نعلاً صفراء لم يزل في سرور ما دام لا بسها, وذلك قوله تعالى: {تسر الناظرين} وكذا قال مجاهد ووهب ابن منبة: كانت صفراء, وعن ابن عمر: كانت صفراء الظلف, وعن سعيد بن جبير: كانت صفراء القرن والظلف, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا نصر بن علي, حدثنا نوح بن قيس, أنبأنا أبو رجاء عن الحسن في قوله تعالى: {بقرة صفراء فاقع لونها} قال سوداء شديدة السواد, وهذا غريب, والصحيح الأول ولهذا أكد صفرتها بأنه {فاقع لونها} وقال عطية العوفي {فاقع لونها} تكاد تسود من صفرتها, وقال سعيد بن جبير {فاقع لونها} قال: صافية اللون. وروي عن أبي العالية والربيع بن أنس والسدي والحسن وقتادة نحوه, وقال شريك عن معمر عن ابن عمر {فاقع لونها} قال: صاف, وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس {فاقع لونها} تكاد تسود من صفرتها, وقال سعيد بن جبير {فاقع لونها} صافية اللون, وروي عن أبي العالية والربيع بن أنس والسدي والحسن وقتادة نحوه, وقال شريك عن معمر عن ابن عمر {فاقع لونها} شديدة الصفرة, تكاد من صفرتها تبيض, وقال السدي {تسر الناظرين} أي تعجب الناظرين, وكذا قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس. وقال وهب بن منبه: إذا نظرت إلى جلدها تخيلت أن شعاع الشمس يخرج من جلدها. وفي التوارة: أنها كانت حمراء , فلعل هذا خطأ في التعريب, أو كما قال الأول: إنها كانت شديدة الصفرة تضرب إلى حمرة وسواد, والله أعلم. وقوله تعالى: {إن البقر تشابه علينا} أي لكثرتها, فميز لنا هذه البقرة وصفها وحلها لنا {وإنا إن شاء الله} إذا بينتها لنا {لمهتدون} إليها, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن يحيى الأودي الصوفي, حدثنا أبو سعيد أحمد بن داود الحداد, حدثنا سرور بن المغيرة الواسطي بن أخي منصور بن زاذان, عن عباد بن منصور, عن الحسن, عن أبي رافع, عن أبي هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لولا أن بني إسرائيل قالوا {وإنا إن شاء الله لمهتدون} ما أعطوا أبداً, ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت عنهم, ولكن شددوا, فشدد الله عليهم» وهذا حديث غريب من هذا الوجه, وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة كما تقدم مثله على السدي, والله أعلم, {قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث} أي إنها ليسن مذللة بالحراثة ولا معدة للسقي في الساقية, بل هي مكرمة, حسنة, وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مسلمة يقول لا عيب فيها, وكذا قال أبو العالية والربيع, وقال مجاهد: مسلمة من الشية, وقال عطاء الخراساني مسلمة القوائم والخلق لا شية فيها, قال مجاهد: لا بياض ولا سواد, وقال أبو العالية والربيع والحسن وقتادة ليس فيها بياض, وقال عطاء الخراساني: لا شية فيها, قال لونها واحد بهيم, وروي عن عطية العوفي ووهب بن منبه وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك, وقال السدي: لا شية فيها من بياض ولا سواد ولا حمرة, وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى, وقد زعم بعضهم أن المعنى في ذلك قوله تعالى: {إنها بقرة لا ذلول} ليست بمذللة بالعمل, ثم استأنف فقال: {تثير الأرض} أي يعمل عليها بالحراثة, لكنها لا تسقي الحرث, وهذا ضعيف لأنه فسر الذلول التي لم تذلل بالعمل بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث, كذا قرره القرطبي وغيره: {قالوا الاَن جئت بالحق} قال قتادة: الاَن بينت لنا, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقبل ذلك والله قد جاءهم الحق {فذبحوها وما كادوا يفعلون} قال الضحاك, عن ابن عباس: كادوا أن لا يفعلوا ولم يكن ذلك الذي أرادوا, لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها, يعني أنهم مع هذا البيان وهذه الأسئلة والأجوبة والإيضاح ما ذبحوها إلا بعد الجهد, وفي هذا ذم لهم, وذلك أنه لم يكن غرضهم إلا التعنت, فلهذا ما كادوا يذبحونها. وقال محمد بن كعب ومحمد بن قيس: فذبحوها وما كادوا يفعلون لكثرة ثمنها, وفي هذا نظر, لأن كثرة الثمن لم يثبت إلا من نقل بني إسرائيل كما تقدم من حكاية أبي العالية والسدي, ورواه العوفي عن ابن عباس, وقال عبيدة ومجاهد وهب بن منبه وأبو العالية وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أنهم اشتروها بمال كثير, وفيه اختلاف, ثم قد قيل في ثمنها غير ذلك, وقال عبد الرزاق: أنبأنا ابن عيينة, أخبرني محمد بن سوقة عن عكرمة, قال: ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير, وهذا إسناد جيد عن عكرمة والظاهر أنه نقله عن أهل الكتاب أيضاً, وقال ابن جرير, وقال آخرون: لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة إن اطلع الله على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه ولم يسنده عن أحد, ثم اختار أن الصواب في ذلك أنهم لم يكادوا يفعلوا ذلك لغلاء ثمنها وللفضيحة, وفي هذا نظر بل الصواب, والله أعلم, ما تقدم من رواية الضحاك عن ابن عباس على ما وجهناه, وبالله التوفيق.
(مسألة) استدل بهذه الاَية في حصر صفات هذه البقرة حتى تعينت أو تم تعقييدها بعد الإطلاق على صحة السلم في الحيوان, كما هو مذهب مالك والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وجمهور من العلماء سلفاً وخلفاً بدليل ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تنعت المرأة المرأة لزوجها كأنه ينظر إليها» وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم, إبل الدية في قتل الخطأ, وشبه العمد بالصفات المذكورة بالحديث, وقال أبو حنيفة والثوري والكوفيون: لا يصح السلم في الحيوان لأنه لا تنضبط أحواله, وحكي مثله عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعبد الرحمن بن سمرة وغيرهم.


** وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَىَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ
قال البخاري: {فادّارأتم فيها} اختلفتم وهكذا قال مجاهد قال فيما رواه ابن أبي حاتم, عن أبيه, عن أبي حذيفة, عن شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, إنه قال في قوله تعالى: {وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها} اختلفتم, وقال عطاء الخراساني والضحاك: اختصمتم فيها, وقال ابن جريج {وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها} قال: بعضهم: أنتم قتلتموه, وقال آخرون: بل أنتم قتلمتموه, وكذ قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم {والله مخرج ما كنتم تكتمون} قال مجاهد: ما تغيبون, وقال ابن حاتم: حدثنا عمرو بن مسلم البصري, حدثنا محمد بن الطفيل العبدي, حدثنا صدقة بن رستم, سمعت المسيب بن رافع يقول: ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله, وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله, وتصديق ذلك في كلام الله {والله مخرج ما كنتم تكتمون * فقلنا اضربوه ببعضها} هذا البعض أي شيء كان من أعضاء هذه البقرة, فالمعجزة حاصلة به, وخرق العادة به كائن, وقد كان معيناً في نفس الأمر, فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبينه الله تعالى لنا, ولكنه أبهمه ولم يجى من طريق صحيح عن معصوم بيانه, فنحن نبهمه كما أبهمه الله, ولهذا قال ابن أبي حاتم: حدّثنا أحمد بن سنان حدّثنا عفان بن مسلم حدّثنا عبد الواحد بن زياد حدّثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال إن أصحاب بقرة بني إسرائيل طلبوها أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل في بقر له وكانت بقرة تعجبه, قال: فجعلوا يعطونه بها فيأبى حتى أعطوه ملء مسكها دنانير, فذبحوها, فضربوه ـ يعني القتيل ـ بعضو منها, فقام تشخب أوداجه دماً, فقالوا له من قتلك ؟ قال: قتلني فلان, وكذا قال الحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أنه ضرب ببعضها, وفي رواية عن ابن عباس أنه ضرب بالعظم الذي يلي الغضروف وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر, قال: أيوب عن ابن سيرين, عن عبيدة: ضربوا القتيل ببعض لحمها, قال معمر: قال قتادة: ضربوه بلحم فخذها فعاش, فقال: قتلني فلان, وقال وكيع بن الجراح في تفسيره: حدثنا النضر بن عربي عن عكرمه {فقلنا اضربوه ببعضها} فضرب بفخذها, فقام فقال: قتلني فلان, قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد وقتادة وعكرمة نحو ذلك. وقال السدي: فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين, فعاش, فسألوه فقال: قتلني ابن أخي, وقال أبو العالية: أمرهم موسى عليه السلام, أن يأخذوا عظماً من عظامها فيضربوا به القتيل, ففعلوا فرجع إليه روحه, فسمى لهم قاتله, ثم عاد ميتاً كما كان, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: فضربوه ببعض آرابها وقيل: بلسانهاوقيل بعجب ذنبها وقوله تعالى: {وكذلك يحيي الله الموتى} أي فضربوه فحيي, ونبه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل, جعل تبارك وتعالى ذلك الصنيع حجة لهم على المعاد, وفاصلاً ما كان بينهم من الخصومة والعناد, والله تعالى قد ذكر في هذه السورة مما خلقه من إحياء الموتى في خمسة مواضع {ثم بعثناكم من بعد موتكم} وهذه القصة, وقصة الذي خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت, وقصة الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها, وقصة إبراهيم عليه السلام والطيور الأربعة, ونبه تعالى بإحياء الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها رميماً, كما قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبه, أخبرني يعلى بن عطاء, قال سمعت وكيع بن عدس يحدث عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه, قال: قلت يا رسول الله, كيف يحيي الله الموتى ؟ قال: «أما مررت بواد ممحل, ثم مررت به خضراً» ؟ قال بلى. قال: «كذلك النشور» أو قال: «كذلك يحيي الله الموتى» وشاهد هذا قوله تعالى: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون * وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون}.
(مسألة) استدل لمذهب الإمام مالك في كون قول الجريح: فلان قتلني لوثا بهذه القصة, لأن القتيل لما حيي سئل عمن قتله, فقال فلان قتلني, فكان ذلك مقبولاً منه, لأنه لا يخبر حينئذ إلا بالحق, ولا يتهم والحالة هذه, ورجحوا ذلك لحديث أنس أن يهودياً قتل جارية على أوضاح لها, فرضخ رأسها بين حجرين, فقيل: من فعل بك هذا, أفلان ؟ أفلان ؟ حتى ذكروا اليهودي, فأومأت برأسها, فأخذ اليهودي, فلم يزل به حتى اعترف, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين, وعن مالك إذا كان لوثاً, حلف أولياء القتيل قسامة, وخالف الجمهور في ذلك, ولم يجعلوا قول القتيل في ذلك لوثا.


** ثُمّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدّ قَسْوَةً وَإِنّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَشّقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ
يقول تعالى توبيخاً لبني إسرائيل وتقريعاً لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى وإحيائه الموتى: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك} كله, فهي كالحجارة التي لا تلين أبداً, ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم, فقال: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون} قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس: لما ضرب المقتول ببعض البقرة جلس أحيا ما كان قط, فقيل له: من قتلك ؟ قال: بنو أخي قتلوني ثم قبض, فقال بنو أخيه حين قبضه الله: والله ما قتلناه فكذبوا بالحق بعد أن رأوه فقال الله ثم قست قلوبكم من بعد ذلك, يعني أبناء أخي الشيخ فهي كالحجارة أو أشد قسوة, فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الاَيات والمعجزات, فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها أو أشد قسوة من الحجارة فإن من الحجارة ما يتفجر منها العيون بالأنهار الجارية, ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء وإن لم يكن جارياً, ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله وفيه إدراك لذلك بحسبه, كما قال: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً} وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: إنه كان يقول: كل حجر يتفجر منه الماء: أو يتشقق عن ماء أو يتردى من رأس جبل لمن خشية الله نزل بذلك القرآن, وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير, عن ابن عباس {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله} أي وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق {وما الله بغافل عما تعملون} وقال أبو علي الجياني في تفسيره {وإن منها لما يهبط من خشية الله} هو سقوط البرد من السحاب, قال القاضي الباقلاني وهذا تأويل بعيد, وتبعه في استبعاده الرازي, وهو كما قال فإن هذا خروج عن اللفظ بلا دليل, والله أعلم, وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي, حدثنا هشام ابن عمار, حدثنا الحكم بن هشام الثقفي, حدثني يحيى بن أبي طالب يعني ويحيى بن يعقوب في قوله تعالى: {وإن من الحجارة لما يتفجر من الأنهار} قال: كثرة البكاء {وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء} قال: قليل البكاء {وإن منها لما يهبط من خشية الله} قال: بكاء القلب من غير دموع العين, وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز, وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة كما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله: {يريد أن ينقض} قال الرازي والقرطبي وغيرهما من الأئمة ولا حاجة إلى هذا, فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة كما في قوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها} وقال: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن} الاَية, وقال: {والنجم والشجر يسجدان} {أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤا ظلاله} الاَية, {قالتا أتينا طائعين} {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل} الاَية: {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله} الاَية, وفي الصحيح «هذا جبل يحبنا ونحبه» وكحنين الجذع المتواتر خبره, وفي صحيح مسلم «إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الاَن» وفي صفة الحجر الأسود: إنه يشهد لمن استلم بحق يوم القيامة, وغير ذلك مما في معناه, وحكى القرطبي قولاً أنها للتخيير أي مثلاً لهذا وهذا وهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين. وكذا حكاه الرازي في تفسيره وزاد قولاً آخر: إنها للإبهام بالنسبة إلى المخاطب, كقول القائل: أكلت خبزاً أو تمراً, وهو يعلم أيهما أكل, وقال آخر: إنها بمعنى قول القائل: كل حلوا أو حامضاً, أي لا يخرج عن واحد منهما, أي وقلوبكم صارت كالحجارة أو أشد قسوة منها لا تخرج عن واحد من هذين الشيئين, والله أعلم.
(تنبيه) اختلف علماء العربية في معني قوله تعالى: {فهي كالحجارة أو أشد قسوة} بعد الاجماع على استحالة كونها للشك, فقال بعضهم: أو: ههنا بمعنى الواو, تقديره: فهي كالحجارة وأشد قسوة, كقوله تعالى: {ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً} {عذرا أو نذرا} وكما قال النابغة الذبياني:
قالت ألا ليتما هذا الحمام لناإلى حمامتنا أو نصفه فقد

تريد ونصفه, قاله ابن جرير, وقال جرير بن عطية:
نال الخلافة أو كانت له قدراًكما أتى ربه موسى على قدر

قال ابن جرير: يعني نال الخلافة وكانت له قدراً, وقال آخرون أو ههنا بمعنى بل فتقديره: فهي كالحجارة بل أشد قسوة, وكقوله: {إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية}, {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون}, {فكان قاب قوسين أو أدنى} وقال آخرون: معنى ذلك: {فهي كالحجارة أو أشد قسوة} عندكم حكاه ابن جرير, وقال آخرون: المراد بذلك الإبهام على المخاطب, كما قال أبو الأسود:
أحب محمداً حباً شديداًوعباساً وحمزة والوصيافإن يك حبهم رشدا أصبهوليس بمخطىء إن كان غيا

وقال ابن جرير: قالوا: ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكا في أن حب من سمى رشد, ولكنه أبهم على من خاطبه, قال: وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات, قيل له: شككت ؟ فقال: كلا والله, ثم انتزع بقول الله تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو ضلال مبين} فقال: أو كان شاكاً من أخبر بهذا من الهادي منهم ومن الضال ؟ وقال بعضهم: معنى ذلك فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين, إما أن تكون مثل الحجارة في القسوة, وإما أن تكون أشد منها في القسوة. قال ابن جرير ومعنى ذلك على هذا التأويل, فبعضها كالحجارة قسوة, وبعضها أشد قسوة من الحجارة¹ وقد رجحه ابن جرير مع توجيه غيره (قلت) وهذا القول الأخير يبقى شبيهاً بقوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} مع قوله: {أو كصيب من السماء} وكقوله: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة} مع قوله: {أو كظلمات في بحر لجي} الاَية, أي إن منهم من هو هكذا, ومنهم من هو هكذا, والله أعلم, وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم, حدثنا محمد بن أيوب حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي الثلج حدثنا علي بن حفص حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن حاطب عن عبد الله بن دينار, عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله, فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب, وإن أبعد الناس من الله: القلب القاسي» رواه الترمذي في كتاب الزهد من جامعه عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج صاحب الإمام أحمد به, ومن وجه آخر عن إبراهيم بن عبد الله بن الحارث بن حاطب به, وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم, وروى البزار عن أنس مرفوعاً «أربع من الشقاء: جمود العين, وقساوة القلب, طول الأمل, والحرص على الدنيا».


** أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُواْ الّذِينَ آمَنُواْ قَالُوَاْ آمَنّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُوَاْ أَتُحَدّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ
يقول تعالى: {أفتطمعون} أيها المؤمنون {أن يؤمنوا لكم} أي ينقاد لكم بالطاعة هؤلاء الفرقة الضالة من اليهود الذين شاهد آباؤهم من الاَيات البينات ما شاهدوه, ثم قست قلوبهم من بعد ذلك: {وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه} أي يتأولونه على غير تأويله {من بعد ما عقلوه} أي فهموه على الجلية ومع هذا يخالفونه على بصيرة {وهم يعلمون} أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله, وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه} قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير, عن ابن عباس, أنه قال: ثم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ولمن معه من المؤمنين يؤيسهم منهم {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله} وليس قوله: يسمعون التوراة كلهم قد سمعها, ولكن هم الذي سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها. وقال محمد بن إسحاق, فيما حدثني بعض أهل العلم: أنهم قالوا لموسى: يا موسى, قد حيل بيننا وبين رؤية ربناتعالى فأسمعنا كلامه حين يكلمك, فطلب ذلك موسى إلى ربه تعالى, فقال: نعم, مرهم فليتطهروا وليطهروا ثيابهم ويصوموا, ثم خرج بهم حتى أتوا الطور, فلما غشيهم الغمام, أمرهم موسى أن يسجدوا, فوقعوا سجوداً, وكلمه ربه, فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم حتى عقلوا منه ما سمعوا, ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل, فلما جاؤوهم, حرف فريق منهم ما أمرهم به, وقالوا: حين قال موسى لبني إسرائيل: إن الله قد أمركم بكذا وكذا, قال ذلك الفريق الذين ذكرهم الله: إنما قال كذا وكذا خلافاً لما قال الله عز وجل لهم فهم الذين عنى الله لرسوله صلى الله عليه وسلم, وقال السدي: {وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه} قال: هي التوراة حرفوها, وهذا الذي ذكره السدي أعم مما ذكره ابن عباس وابن إسحاق, وإن كان قد اختاره ابن جرير لظاهر السياق, فإنه ليس يلزم من سماع كلام الله أن يكون منه كما سمعه الكليم موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام, وقد قال الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} أي مبلغاً إليه, ولهذا قال قتادة في قوله: {ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون} قال: هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ووعوه, وقال مجاهد: الذين يحرفونه والذين يكتمونه هم العلماء منهم, وقال أبو العالية: عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم فحرفوه عن مواضعه, وقال السدي {وهم يعلمون} أي أنهم أذنبوا, وقال ابن وهب: قال ابن زيد في قوله: {يسمعون كلام الله ثم يحرفونه} قال: التوراة التي أنزلها الله عليهم يحرفونها, يجعلون الحلال فيها حراماً والحرام فيها حلالاً, والحق فيها باطلاً والباطل فيها حقاً, إذا جاءهم المحق برشوة أخرجوا له كتاب الله, وإذا جاءهم المبطل برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب فهو فيه محق, وإذا جاءهم أحد يسألهم شيئاً ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء أمروه بالحق, فقال الله لهم: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون}.
وقوله تعالى: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض} الاَية, قال محمد بن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير, وعن ابن عباس {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا} أي أن صاحبكم محمد رسول الله, ولكنه إليكم خاصة, وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: لا تحدثوا العرب بهذا فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم فكان منهم, فأنزل الله {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم} أي تقرون بأنه نبي. وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه. وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجد في كتابنا, اجحدوه ولا تقروا به. يقول الله تعالى {أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون} وقال الضحاك عن ابن عباس: يعني المنافقين من اليهود, كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا, وقال السدي: هؤلاء ناس من اليهود, آمنوا ثم نافقوا. وكذا قال الربيع بن أنس وقتادة وغير واحد من السلف والخلف حتى قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فيما رواه ابن وهب عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال «لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن» فقال رؤساؤهم من أهل الكفر والنفاق: اذهبوا فقولوا: آمنا واكفروا إذا رجعتم إلينا, فكانوا يأتون المدينة بالبكر ويرجعون إليهم بعد العصر. وقرأ قول الله تعالى {وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون} وكانوا يقولون إذا دخلوا المدينة: نحن مسلمون ليعلموا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره, فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر, فلما أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم قطع ذلك عنهم, فلم يكونوا يدخلون, وكان المؤمنون يظنون أنهم مؤمنون فيقولون: أليس قد قال الله لكم كذا وكذا, فيقولون: بلى, فإذا رجعوا إلى قومهم, يعني الرؤساء, فقالوا: {أتحدثونهم بما فتح الله عليكم} الاَية, وقال أبو العالية {أتحدثونهم بما فتح الله عليكم} يعني بما أنزل عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم, وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة {أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم} قال كانوا يقولون: سيكون نبي فخلا بعضهم ببعض, فقالوا {أتحدثونهم بما فتح الله عليكم} قول آخر في المراد بالفتح, قال ابن جريج: حدثني القاسم بن أبي بزة عن مجاهد في قوله تعالى: {أتحدثونهم بما فتح الله عليكم} قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة تحت حصونهم, فقال: يا إخوان القردة والخنازير, ويا عبدة الطاغوت, فقالوا: من أخبر بهذا الأمر محمداً ؟ ما خرج هذا القول إلا منكم {أتحدثونهم بما فتح الله عليكم} بما حكم الله للفتح ليكون لهم حجة عليكم, قال ابن جريج عن مجاهد: هذا حين أرسل إليهم علياً فآذوا محمداً صلى الله عليه وسلم, وقال السدي {أتحدثونهم بما فتح الله عليكم} من العذاب {ليحاجوكم به عند ربكم} هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا, فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به, فقال بعضهم لبعض {أتحدثونهم بما فتح الله عليكم} من العذاب ليقولوا: نحن أحب إلى الله منكم, وأكرم على الله منكم. وقال عطاء الخراساني {أتحدثونهم بما فتح الله عليكم} يعني بما قضى لكم وعليكم. وقال الحسن البصري: هؤلاء اليهود كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا, وإذا خلا بعضهم إلى بعض قال بعضهم: لا تحدثوا أصحاب محمد بما فتح الله عليكم مما في كتابكم ليحاجوكم به عند ربكم فيخصموكم. وقوله تعالى: {أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون} قال أبو العالية: يعني ما أسروا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به, وهم يجدونه مكتوباً عندهم, وكذا قال قتادة, وقال الحسن {إن الله يعلم ما يسرون} قال: كان ما أسروا أنهم كانوا إذا تولوا عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وخلا بعضهم إلى بعض, تناهوا أن يخبر أحد منهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما فتح الله عليهم مما في كتابهم خشية أن يحاجهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما في كتابهم عند ربهم {وما يعلنون} يعني حين قالوا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: وآمنا. كذا قال أبو العالية والربيع وقتادة.


** وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاّ أَمَانِيّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنّونَ * فَوَيْلٌ لّلّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمّ يَقُولُونَ هَـَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لّهُمْ مّمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لّهُمْ مّمّا يَكْسِبُونَ
يقول تعالى: {ومنهم أمّيون} أي ومن أهل الكتاب, قاله مجاهد, والأميون جمع أمي, وهو الرجل الذي لا يحسن الكتابة, قال أبو العالية والربيع وقتادة وإبراهيم النخعي وغير واحد وهو ظاهر في قوله تعالى {لا يعلمون الكتاب} أي لا يدرون ما فيه. ولهذا في صفات النبي صلى الله عليه وسلم: أنه الأمي لأنه لم يكن يحسن الكتابة, كما قال تعالى {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون} وقال عليه الصلاة السلام «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا» الحديث, أي لا نفتقر في عباداتنا ومواقيتها إلى كتاب ولا حساب, وقال تبارك وتعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم} وقال ابن جرير: نسبت العرب من لا يكتب ولا يخط من الرجال إلى أمه من جهله بالكتاب دون أبيه. قال: وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: قول خلاف هذا, وهو ما حدثنا به أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس, في قوله تعالى: {ومنهم أميون} قال الأميون: قوم لم يصدقوا رسولاً أرسله الله, ولا كتاباً أنزله الله, فكتبوا كتاباً بأيديهم, ثم قالوا لقوم سفلة جهال هذا من عند الله, وقال: قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم ثم سماهم أميين لجحودهم كتب الله ورسله, ثم قال ابن جرير: وهذا التأويل تأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم, وذلك أن الأمي عند العرب الذي لا يكتب. قلت: ثم في صحة هذا عن ابن عباس بهذا الإسناد نظر, والله أعلم. وقوله تعالى: {إلا أماني} قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: إلا أماني الأحاديث, وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى {إلا أماني} يقول إلا قولاً يقولون بأفواههم كذباً. وقال مجاهد إلا كذباً: وقال سنيد عن حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني} قال أناس من اليهود, لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئاً, وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله ويقولون هو من الكتاب, أماني يتمنونها, وعن الحسن البصري نحوه, وقال أبو العالية والربيع وقتادة: إلا أماني يتمنون على الله ما ليس لهم, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إلا أماني, قال: تمنوا فقالوا: نحن من أهل الكتاب وليسوا منهم, قال ابن جرير: والأشبه بالصواب قول الضحاك عن ابن عباس, وقال مجاهد: إن الأميين الذين وصفهم الله تعالى أنهم لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله تعالى على موسى شيئاً ولكنهم يتخرصون الكذب ويتخرصون الأباطيل كذباً وزوراً, والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه, ومنه الخبر المروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: ما تغنيت ولا تمنيت, يعني ما تخرصت الباطل ولا اختلقت الكذب, وقيل المراد بقوله إلا أماني بالتشديد والتخفيف أيضاً: أي إلا تلاوة, فعلى هذا يكون استثناء منقطعاً, واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى: {إلا إذا تمنى ـ أي تلا ـ ألقى الشيطان في أمنيته} الاَية, وقال كعب بن مالك الشاعر:
تمنى كتاب الله أول ليلةوآخره لاقى حمام المقادر

وقال آخر:
تمنى كتاب الله آخر ليلةتمنى داود الكتاب على رسل

وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير, عن ابن عباس {لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون} أي ولا يدرون ما فيه, وهم يجدون نبوتك بالظن, وقال مجاهد: {وإن هم إلا يظنون} يكذبون وقال قتادة وأبو العالية والربيع: يظنون بالله الظنون بغير الحق. قوله تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً} الاَية, هؤلاء صنف آخر من اليهود. وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله وأكل أموال الناس بالباطل, والويل: الهلاك والدمار, وهي كلمة مشهورة في اللغة, وقال سفيان الثوري عن زياد بن فياض: سمعت أبا عياض يقول: ويل صديد في أصل جهنم وقال عطاء بن يسار: الويل واد في جهنم لو سيرت فيه الجبال لماعت. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, أخبرنا ابن وهب, أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج, عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره» ورواه الترمذي عن عبد الرحمن بن حميد, عن الحسن بن موسى, عن ابن لهيعة, عن دارج به, وقال هذا الحديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة (قلت) لم ينفرد به ابن لهيعة كما ترى, ولكن الاَفة ممن بعده, وهذا الحديث بهذا الإسناد مرفوع منكر, والله أعلم. وقال ابن جرير حدثنا المثنى, حدثنا إبراهيم بن عبد السلام, حدثنا صالح القشيري, حدثنا علي بن جرير عن حماد بن سلمة, عن عبد الحميد بن جعفر, عن كنانة العدوي, عن عثمان بن عفان رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم {فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} قال «الويل جبل في النار» وهو الذي أنزل في اليهود, لأنهم حرفوا التوراة, زادوا فيها ما أحبوا, ومحوا منها ما يكرهون, ومحوا اسم محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة ولذلك غضب الله عليهم, فرفع بعض التوراة فقال تعالى: {فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} وهذا غريب أيضاً جداً, وعن ابن عباس: الويل المشقة من العذاب, وقال الخليل بن أحمد: الويل شدة الشر, وقال سيبويه: ويل لمن وقع في الهلكة, وويح لمن أشرف عليها, وقال الأصمعي: الويل تفجع, والويح ترحم, وقال غيره: الويل: الحزن, وقال الخليل: وفي معنى ويل: ويح وويش وويه وويك وويب, ومنهم من فرق بينها, وقال بعض النحاة: إنما جاز الابتداء بها وهي نكرة لأن فيها معنى الدعاء, ومنهم من جوز نصبها بمعنى: ألزمهم ويلاً (قلت) لكن لم يقرأ بذلك أحد, وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} قال: هم أحبار اليهود, وكذا قال سعيد عن قتادة: هم اليهود, وقال سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن علقمة: سألت ابن عباس رضي الله عنه, عن قوله تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} قال: نزلت في المشركن وأهل الكتاب, وقال السدي: كان ناس من اليهود كتبوا كتاباً من عندهم يبيعونه من العرب ويحدثونهم أنه من عند الله فيأخذوا به ثمناً قليلاً, وقال الزهري: أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أنه قال: يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء, وكتاب الله الذي أنزله على نبيه أحدث أخبار الله تقرؤونه غضاً لم يشب وقد حدثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه, وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً, أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم, ولا والله ما رأينا منهم أحداً قط سألكم عن الذي أنزل عليكم, رواه البخاري من طرق عن الزهري, وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: الثمن القليل الدنيا بحذافيرها. وقوله تعالى: {فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} أي فويل لهم مما كتبوا بأيديهم من الكذب والبهتان والافتراء, وويل لهم مما أكلوا به من السحت, كما قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما {فويل لهم} يقول: فالعذاب عليهم من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب, وويل لهم مما يكسبون يقول مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم.


** وَقَالُواْ لَن تَمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مّعْدُودَةً قُلْ أَتّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
يقول تعالى إخباراً عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم من أنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة, ثم ينجون منها, فرد الله عليهم ذلك بقوله تعالى {قل أتخذتم عند الله عهداً} أي بذلك, فإن كان قد وقع عهد فهو لا يخلف عهده, ولكن هذا ما جرى ولا كان, ولهذا أتى بأم التي بمعنى بل, أي بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه, قال محمد بن إسحاق عن سيف بن سليمان, عن مجاهد, عن ابن عباس: أن اليهود كانوا يقولون أن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة, وإنما نعذب بكل ألف سنة يوماً في النار وإنما هي سبعة أيام معدودة فأنزل الله تعالى {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} إلى قوله {خالدون} ثم رواه عن محمد, عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس بنحوه, وقال العوفي عن ابن عباس {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} اليهود قالوا: لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة, زاد غيره وهي مدة عبادتهم العجل, وحكاه القرطبي عن ابن عباس وقتادة, وقال الضحاك وقال ابن عباس زعمت اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوباً أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم التي هي نابتة في أصل الجحيم, وقال أعداء الله إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم وتلك فذلك قوله تعالى: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} يعني الأيام التي عبدنا فيها العجل وقال عكرمة خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا لن ندخل النار إلا أربعين ليلة, وسيخلفنا فيها قوم آخرون, تعنون محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رؤوسهم «بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفكم فيها أحد» فأنزل الله عز وجل {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} الاَية, وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه رحمه الله: حدثنا عبد الرحمن بن جعفر, حدثنا محمد بن محمد بن صخر, حدثنا أبو عبد الرحمن المقرىء, حدثنا ليث بن سعد, حدثني سعيد بن أبي سعيد, عن أبي هريرة, قال: لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم, شاة فيها سم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اجمعوا لي من كان من اليهود ههنا» فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أبوكم» ؟ قالوا فلان, قال «كذبتم بل أبوكم فلان» فقالوا: صدقت وبررت, ثم قال لهم «هل أنتم صادقّي عن شيء إن سألتكم عنه» ؟ قالوا نعم يا أبا القاسم, وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أهل النار » ؟ فقالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «اخسئوا والله لا نخلفكم فيها أبداً» ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه ؟» قالوا: نعم يا أبا القاسم, قال: «هل جعلتم في هذه الشاة سما ؟» فقالوا: نعم, قال «فما حملكم على ذلك ؟» فقالوا: أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك, وإن كنت نبياً لم يضر, ورواه الإمام أحمد والبخاري والنسائي من حديث الليث بن سعد بنحوه.


** بَلَىَ مَن كَسَبَ سَيّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـَئَتُهُ فَأُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أُولَـَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
يقول تعالى: ليس الأمر كما تمنيتم ولا كما تشتهون, بل الأمر أنه من عمل سيئة وأحاطت به خطيئته وهو من وافى يوم القيامة وليست له حسنة بل جميع أعماله سيئات فهذا من أهل النار, {والذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي آمنوا بالله ورسوله, وعملوا الصالحات من العمل الموافق للشريعة فهم من أهل الجنة, وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجزبه ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً * ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً} قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة, عن ابن عباس {بلى من كسب سيئة} أي عمل مثل أعمالكم وكفر بمثل ما كفرتم به حتى يحيط به كفره, فماله من حسنة, وفي رواية عن ابن عباس, قال: الشرك, قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي وائل وأبي العالية ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والربيع بن أنس نحوه, وقال الحسن أيضاً والسدي: السيئة الكبيرة من الكبائر, وقال ابن جريج, عن مجاهد {وأحاطت به خطيئته} قال: بقلبه, وقال أبو هريرة وأبو وائل وعطاء والحسن {وأحاطت به خطيئته} قال: أحاط به شركه, وقال الأعمش عن أبي رزين عن الربيع بن خيثم {وأحاطت به خطيئته} قال الذي يموت على خطاياه من قبل أن يتوب, وعن السدي وأبي رزين نحوه, وقال أبو العالية ومجاهد والحسن في رواية عنهما, وقتادة والربيع بن أنس {وأحاطت به خطيئته} والموجبة الكبيرة, وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى, والله أعلم. ويذكر ههنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا سليمان بن داود, حدثنا عمرو بن قتادة عن عبد ربه, عن أبي عياض, عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه «وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم مثلاً كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة, فحضر صنيع القوم, فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود, والرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سواداً, وأججوا ناراً فأنضجوا ما قذفوا فيها. وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد عن سعيد أو عكرمة, عن ابن عباس {والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} أي من آمن بما كفرتم وعمل بما تركتم من دينه, فلهم الجنة خالدين فيها, يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبداً لا انقطاع له.


** وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ ثُمّ تَوَلّيْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً مّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مّعْرِضُونَ
يذكر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر وأخذه ميثاقهم على ذلك وآنهم تولوا عن ذلك كله, وأعرضوا قصداً وعمداً وهم يعرفونه, ويذكرونه, فأمرهم تعالى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً, وبهذا أمر جميع خلقه, ولذلك خلقهم كما قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها, وهو حق الله تبارك وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له, ثم بعده حق المخلوقين وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين, ولهذا يقرن تبارك وتعالى بين حقه وحق الوالدين كما قال تعالى: {أن شكر لي ولوالديك إلي المصير} وقال تبارك وتعالى: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً} إلى أن قال {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل} وفي الصحيحين عن ابن مسعود, قلت: يا رسول الله أيّ العمل أفضل ؟ قال «الصلاة على وقتها» قلت: ثم أي ؟ قال «بر الوالدين» قلت: ثم أي ؟ قال «الجهاد في سبيل الله » ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رجلاً قال: يا رسول الله من أبر ؟ قال «أمك» قال: ثم من ؟ قال «أمك» قال: ثم من ؟ قال: «أباك» ؟ ثم أدناك ثم أدناك» وقوله تعالى: {لا تعبدون إلا الله} قال الزمخشري خبر بمعنى الطلب وهو آكد, وقيل كان أصله {أن لا تعبدوا إلا الله} ونقل من قرأها من السلف, فحذفت أن فارتفع, وحكي عن أبيّ وابن مسعود أنهما قرآها {لا تعبدوا إلا الله} ونقل هذا التوجيه القرطبي في تفسيره عن سيبوبه. قال: واختاره الكسائي والفراء, قال {واليتامى} وهم الصغار الذين لا كاسب لهم من الاَباء, والمساكين الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم, وسيأتي الكلام على هذه الأصناف عند آية النساء التي أمرنا الله تعالى بها صريحاً في قوله {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً} الاَية, وقوله تعالى {وقولوا للناس حسناً} أي كلموهم طيباً, ولينوا لهم جانباً, ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف كما قال الحسن البصري في قوله تعالى {وقولوا للناس حسناً} فالحسن من القول يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحلم ويعفو ويصفح, ويقول للناس: حسناً كما قال الله, وهو كل خلق حسن رضيه الله.
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح, حدثنا أبو عامر الخزاز, عن أبي عمران الجوني, عن عبد الله بن الصامت, عن أبي ذر رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا تحقرن من المعروف شيئاً, وإن لم تجد فالق أخاك بوجه منطلق» وأخرجه مسلم في صحيحه, والترمذي, وصححه من حديث أبي عامر الخزاز واسمه صالح بن رستم به, وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للناس: حسناً بعدما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل, فجمع بين طرفي الاحسان الفعلي والقولي, ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمتعين من ذلك وهو الصلاة والزكاة, فقال {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} وأخبر أنهم تولوا عن ذلك كله, أي تركوه وراء ظهروهم وأعرضوا عنه على عمد بعد العلم به إلا القليل منهم, وقد أمر الله هذه الأمة بنظير ذلك في سورة النساء بقوله {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم, إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً} ف
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://domoo3.own0.com/
RoMa
Admin
RoMa


عدد المساهمات : 1980
نقاط : 6051
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 04/09/2011
العمر : 29
الموقع : دموع عيون حبيبى

تفسير سورة البقرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة   تفسير سورة البقرة I_icon_minitimeالأحد أكتوبر 30, 2011 11:13 pm

** وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مّن دِيَارِكُمْ ثُمّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمّ أَنْتُمْ هَـَؤُلآءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مّنْكُمْ مّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىَ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدّونَ إِلَىَ أَشَدّ الّعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ * أُولَـَئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدّنْيَا بِالاَخِرَةِ فَلاَ يُخَفّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ
يقول تبارك وتعالى منكراً على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة, وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج, وذلك أن الاَوس والخزرج وهم الأنصار كانوا في الجاهلية عباد أصنام, وكانت بينهم حروب كثيرة, وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل: بنو قينقاع, وبنو النضير: حلفاء الخزرج, وبنو قريظة: حلفاء الأوس, فكانت الحرب إذا نشبت بينهم, قاتل كل فريق مع حلفائه, فيقتل اليهودي أعداءه, وقد يقتل اليهودي الاَخر من الفريق الاَخر, وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم, ويخرجونهم من بيوتهم وينتهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال, ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكّوا الأسارى من الفريق المغلوب عملاً بحكم التوراة, ولهذا قال تعالى: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} ولهذا قال تعالى: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} أي لا يقتل بعضكم بعضاً ولا يخرجه من منزله ولا يظاهر عليه, كما قال تعالى: {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم} وذلك أن اهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة كما قال عليه الصلاة والسلام «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» وقوله تعالى: {ثم أقررتم وأنتم تشهدون} أي ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم} الاَية, قال محمد بن إسحاق بن يسار, حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم} الاَية, قال: أنبأهم الله بذلك من فعلهم, وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم, وافترض عليهم فيها فداء أسراهم, فكانوا فريقين: طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج والنضير, وقريظة وهم حلفاء الأوس, فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج, وخرجت النضير وقريظة مع الأوس, يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى تسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم, والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ولا يعرفون جنة ولا ناراً ولا بعثاً ولا قيامة ولا كتاباً ولا حلالاً ولا حراماً, فإذا وضعت الحرب أوزارها, افتدوا أسراهم تصديقاً لما في التوراة وأخذا به بعضهم من بعض, يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس, ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم, ويطلبون ما أصابوا من دمائهم, وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم مظاهرة لأهل الشرك عليهم يقول الله تعالى ذكره حيث أنبأهم بذلك {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} أي تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم وفي حكم التوراة أن لا يقتل ولا يخرج من داره ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض الدنيا ؟ ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج فيما بلغني نزلت هذه القصة. وقال أسباط عن السدي: كانت قريظة حلفاء الأوس, وكانت النضير حلفاء الخزرج فكانوا يقتتلون في حرب بينهم, فتقاتل بنو قريظة مع حلفائهم النضير وحلفائهم, وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها ويغلبونهم, فيخربون ديارهم ويخرجونهم منها, فإذا أسر رجل من الفريقين كلاهما, جمعوا له حتى يفدوه, فتعيرهم العرب بذلك يقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم, قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم, قالوا فلم تقتلونهم ؟ قالوا: إنا نستحي أن تستذل حلفاؤنا, فذلك حين عيرهم الله تبارك وتعالى فقال تعالى: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم} الاَية, وقال أسباط عن السدي عن الشعبي نزلت هذه الاَية في قيس بن الخطيم {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم} الاَية, وقال أسباط عن السدي, عن عبد خير, قال: غزونا مع سليمان بن ربيعة الباهلي بلنجر فحاصرنا أهلها, ففتحنا المدينة وأصبنا سبايا, واشترى عبد الله بن سلام يهودية بسبعمائة, فلما مر برأس الجالوت نزل به, فقال له عبد الله, يا رأس الجالوت, هل لك في عجوز ههنا من أهل دينك تشتريها مني ؟ قال: نعم, قال: أخذتها بسبعمائة درهم, قال: فإني أربحك سبعمائة أخرى, قال: فإني قد حلفت أن لا أنقصها من أربعة آلاف, قال: لا حاجة لي فيها, قال: والله لتشرينها مني أو لتكفرن بدينك الذي أنت عليه, قال: ادن مني, فدنا منه, فقرأ في أذنه مما في التوراة: إنك لا تجد مملوكاً من بني إسرائيل إلا اشتريته, فأعتقه {وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم} قال: أنت عبد الله بن سلام ؟ قال: نعم: فجاء بأربعة آلاف, فأخذ عبد الله ألفين, ورد عليه ألفين. وقال آدم بن أبي إياس في تفسيره: حدثنا أبو جعفر يعني الرازي, حدثنا الربيع بن أنس, أخبرنا أبو العالية: أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة, وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب, ولا يفادي من وقع عليه العرب, فقال عبد الله: أما أنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن والذي أرشدت إليه الاَية الكريمة, وهذا السياق ذم اليهود في قيامهم بأمر التوارة التي يعتقدون صحتها ومخالفة شرعها مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة, فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها, ولا يصدقون فيما كتموه من صفة الرسول الله صلى الله عليه وسلم ونعته ومبعثه ومخرجه ومهاجره وغير ذلك من شؤونه التي أخبرت بها الأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام, واليهود عليهم لعائن الله يتكاتمونه بينهم, ولهذا قال تعالى: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا} أي بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره {ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب} جزاء على مخالفتهم كتاب الله الذي بأيديهم {وما الله بغافل عما تعلمون * أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالاَخرة} أي استحبوها على الاَخرة واختاروها {فلا يخفف عنهم العذاب} أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة {ولا هم ينصرون} أي وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي ولا يجيرهم منه.


** وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ الْكِتَابَ وَقَفّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَاتِ وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىَ أَنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ
ينعت تبارك وتعالى بني إسرائيل بالعتو والعناد والمخالفة والاستكبار على الأنبياء, وأنهم إنما يتبعون أهواءهم, فذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب وهو التوراة, فحرفوها وبدلوها وخالفوا أوامرها وأولوها, وأرسل الرسل والنبيين من بعده الذين يحكمون بشريعته كما قال تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتابِ الله وكانوا عليه شهداء} الاَية: ولهذا قال تعالى: {وقفينا من بعده بالرسل} قال السدي عن أبي مالك: أتبعنا, وقال غيره: أردفنا والكل قريب كما قال تعالى: {ثم أرسلنا رسلنا تترى} حتى ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم, فجاء بمخالفة التوراة في بعض الأحكام, ولهذا أعطاه الله من البينات وهي المعجزات, قال ابن عباس من إحياء الموتى, وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله, وإبراء الأسقام, وإخباره بالغيوب, وتأييده بروح القدس وهو جبريل عليه السلام ـ ما يدلهم على صدقه فيما جاءهم به, فاشتد تكذيب بني إسرائيل له, وحسدهم وعنادهم لمخالفة التوراة في البعض, كما قال تعالى إخباراً عن عيسى: {ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم} الاَية, فكانت بنو إسرائيل تعامل الأنبياء أسوأ المعاملة, ففريقاً يكذبونه, وفريقاً يقتلونه, وما ذاك إلا لأنهم يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم, وبالإلزام بأحكام التوراة التي قد تصرفوا في مخالفتها, فلهذا كان ذلك يشق عليهم فكذبوهم, وربما قتلوا بعضهم, ولهذا قال تعالى: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون}.
والدليل على أن روح القدس هو جبريل, كما نص عليه ابن مسعود في تفسير هذه الاَية, وتابعه على ذلك ابن عباس ومحمد بن كعب وإسماعيل بن خالد والسدي والربيع بن أنس وعطية العوفي وقتادة مع قوله تعالى: {نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين} ما قال البخاري وقال ابن أبي الزناد, عن أبيه, عن أبي هريرة, عن عروة عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وضع لحسان بن ثابت منبراً في المسجد, فكان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهم أيد حسان بروح القدس كما نافح عن نبيك» فهذا من البخاري تعليقاً, وقد رواه أبو داود في سننه عن ابن سيرين والترمذي, عن علي بن حجر وإسماعيل بن موسى الفزاري, ثلاثتهم, عن أبي عبد الرحمن بن أبي الزناد, عن أبيه وهشام بن عروة, كلاهما عن عروة, عن عائشة به, قال الترمذي: حسن صحيح, وهو حديث أبي الزناد, وفي الصحيحين من حديث سفيان بن عيينه, عن الزهري عن سعيد بن المسيب, عن أبي هريرة: أن عمر بن الخطاب مر بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد, فلحظ إليه فقال: قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك, ثم التفت إلى أبي هريرة فقال أنشدك الله, أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أجب عني اللهم أيده بروح القدس» فقال: اللهم نعم, وفي بعض الروايات: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال لحسان «اهجهم ـ أو هاجهم ـ وجبريل معك» وفي شعر حسان قوله:
وجبريل رسول الله فيناوروح القدس ليس به خفاء

وقال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي, عن شهر بن حوشب الأشعري: أن نفراً من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, قالوا: أخبرنا عن الروح, فقال: «أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أنه جبرائيل وهو الذي يأتيني ؟» قالوا: نعم, وفي صحيح ابن حبان, عن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها, فاتقوا الله وأجملوا في الطلب». أقوال أخر ـ قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا منجاب بن الحارث, حدثنا بشر عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس {وأيدناه بروح القدس} قال: هو الاسم الأعظم الذي كان عيسى يحيي به الموتى. وقال ابن جرير: حدثت عن المنجاب فذكره, وقال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك, ونقله القرطبي عن عبيد بن عمير أيضاً قال: وهو الاسم الأعظم. وقال ابن أبي نجيح: الروح هو حفظة على الملائكة, وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس: القدس هو الرب تبارك وتعالى, وهو قول كعب, وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن البصري أنهما قالا: القدس: هو الله تعالى, وروحه: جبريل, وهو قول كعب, وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن البصري أنهما قالا: القدس: هو الله تعالى, وروحه: جبريل. فعلى هذا يكون القول الأول, وقال السدي: القدس البركة. وقال العوفي عن ابن عباس: القدس: الطهر, وقال ابن جرير حدثنا يونس بن عبد الأعلى, أنبأنا ابن وهب, قال ابن زيد في قوله تعالى {وأيدناه بروح القدس} قال: أيد الله عيسى بالإنجيل روحاً كما جعل القرآن روحاً, كلاهما روح من الله, كما قال تعالى {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} ثم قال ابن جرير: وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قول من قال: الروح في هذا الموضع: جبرائيل, فإن الله تعالى أخبر أنه أيد عيسى به كما أخبر في قوله تعالى {إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} الاَية, فذكر أنه أيده به, فلو كان الروح الذي أيده به هو الإنجيل, لكان قوله: {إذ أيدتك بروح القدس * وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} تكرير قول لا معنى له, والله سبحانه وتعالى أعز وأجل أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به, (قلت) ومن الدليل على أنه جبرائيل ما تقدم من أول السياق, و لله الحمد, وقال الزمخشري {بروح القدس} بالروح المقدسة, كما تقول: حاتم الجود ورجل صدق ووصفها بالقدس كما قال:{وروح منه} فوصفه بالاختصاص والتقريب تكرمة, وقيل: لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث وقيل بجبريل, قيل بالإنجيل كما قال في القرآن {روحاً من أمرنا} وقيل: باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره فتضمن كلامه قولاً آخر, وهو أن المراد روح عيسى نفسه المقدسة المطهرة, وقال الزمخشري في قوله تعالى: {ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون} إنما لم يقل وفريقاً قتلتم, لأنه أراد بذلك وصفهم في المستقبل أيضاً لأنهم حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بالسم والسحر وقد قال عليه السلام في مرض موته: «ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري» (قلت) وهذا الحديث في صحيح البخاري وغيره.


** وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مّا يُؤْمِنُونَ
قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد, عن عكرمة أو سعيد, عن ابن عباس {وقالوا قلوبنا غلف} أي في أكنة, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {وقالوا قلوبنا غلف} أي لا تفقه: وقال العوفي عن ابن عباس: {وقالوا قلوبنا غلف} هي القلب المطبوع عليها, وقال مجاهد {وقالوا قلوبنا غلف} عليه غشاوة وقال عكرمة: عليها طابع, وقال أبو العالية: أي لا تفقه, وقال السدي يقولون عليه غلاف, وهو الغطاء, وقال عبد الرزاق عن معمر, عن قتادة: فلا تعي ولا تفقه, قال مجاهد وقتادة: وقرأ ابن عباس غلف, بضم اللام, وهو جمع غلاف, أي قولبنا أوعية كل علم فلا نحتاج إلى علمك, قاله ابن عباس وعطاء {بل لعنهم الله بكفرهم} أي طردهم الله وأبعدهم من كل خير {فقليلاً ما يؤمنون} قال قتادة: معناه لا يؤمن منهم إلا القليل {وقالوا قلوبنا غلف} هو كقوله {وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه} وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله غلف, قال: تقول قلبي في غلاف فلا يخلص إليه مما تقول شيء, وقرأ {وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه} وهذا الذي رجحه ابن جرير, واستشهد بما روي من حديث عمرو بن مرة الجملي عن أبي البختري, عن حذيفة قال: «القلوب أربعة» فذكر منها «وقلب أغلف مغضوب عليه وذاك قلب الكافر» وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الرحمن العرزمي, أنبأنا أبي, عن جدي, عن قتادة, عن الحسن في قوله: {قلوبنا غلف} قال: لم تختن, هذا القول يرجع معناه إلى ما تقدم من عدم طهارة قلوبهم وأنها بعيدة من الخير. قول آخر ـ قال الضحاك عن ابن عباس {وقالوا قلوبنا غلف} قال: يقولون قلوبنا غلف مملوءة لا تحتاج إلى علم محمد ولا غيره. وقال عطية العوفي عن ابن عباس {وقالوا قلوبنا غلف} أي أوعية للعمل, وعلى هذا المعنى جاءت قراءة بعض الأنصار فيها, حكاه ابن جرير, وقالوا: قلوبنا غلف, بضم اللام, نقلها الزمخشري, أي جمع غلاف, أي أوعية, بمعنى أنهم ادعوا أن قلوبهم مملوءة بعلم لا يحتاجون معه إلى علم آخر كما كانوا يمنون بعلم التوراة, ولهذا قال تعالى: {بل لعنهم الله بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون} أي ليس الأمر كما ادعوا بل قلوبهم ملعونة مطبوع عليها, كما قال في سورة النساء: {وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً} وقد اختلفوا في معنى قوله: {فقليلاً ما يؤمنون} وقوله: {فلا يؤمنون إلا قليلاً} فقال بعضهم: فقليل من يؤمن منهم, وقليل: فقليل إيمانهم بمعنى أنهم يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد والثواب والعقاب, ولكنه إيمان لا ينفعهم لأنه مغمور بما كفروا به من الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم, وقال بعضهم: إنما كانوا غير مؤمنين بشيء, وإنما قال: فقليلاً ما يؤمنون وهم بالجميع كافرون, كما تقول العرب: قلما رأيت مثل هذا قط, تريد ما رأيت مثل هذا قط, وقال الكسائي: تقول العرب: من زنى بأرض قلما تنبت, أي لا تنبت شيئاً, حكاه ابن جرير رحمه الله, والله أعلم.


** وَلَمّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمّا جَآءَهُمْ مّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ
يقول تعالى: {ولما جاءهم}, يعني اليهود, {كتاب من عند الله} وهو القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم {مصدق لما معهم} يعني من التوراة, وقوله {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} أي وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم يقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم, كما قال محمد بن إسحاق, عن عاصم بن عمرو, عن قتادة الأنصاري, عن أشياخ منهم, قال: فينا والله وفيهم, يعني في الأنصار وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم نزلت هذه القصة يعني: {ولما جاءهم كتاب من عند اللهمصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} قالوا: كنا قد علوناهم قهراً دهراً في الجاهلية, ونحن أهل شرك, وهم أهل كتاب, وهم يقولون: إن نبياً سيبعث الاَن نتبعه قد أظل زمانه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم فلما بعث الله رسوله من قريش واتبعناه كفروا به, يقول الله تعالى: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} , وقال الضحاك, عن ابن عباس في قوله: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} قال: يستنصرون, يقولون: نحن نعين محمداً عليهم, وليسوا كذلك بل يكذبون, وقال محمد بن إسحاق: أخبرني محمد بن أبي محمد, أخبرني عكرمة أو سعيد بن جبير, عن ابن عباس: أن يهوداً كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه, فلما بعثه الله من العرب, كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه, فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود بن سلمة يا معشر يهود, اتقوا الله وأسلموا, فقد كنتم تستفتحون علينا بمحد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته, فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه, ما هو الذي كنا نذكر لكم, فينزل الله في ذلك من قولهم: {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم} الاَية, وقال العوفي عن ابن عباس {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} يقول: يستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب, يعني بذلك أهل الكتاب, فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ورأوه من غيرهم, كفروا به وحسدوه, وقال أبو العالية: كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب, يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوباً عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم. فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ورأوا أنه من غيرهم, كفروا به حسداً للعرب وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال الله تعالى: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} وقال قتادة {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} قال: وكانوا يقولون: إنه سيأتي نبي. {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} وقال مجاهد {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} قال: هم اليهود} )


** بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىَ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مّهِينٌ
قال مجاهد {بئسما اشتروا به أنفسهم} يهود شروا الحق بالباطل وكتمان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بأن يبينوه, وقال السدي {بئسما اشتروا به أنفسهم} يقول: باعوا به أنفسهم, يقول: بئسما اعتاضوا لأنفسهم فرضوا به وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل اللهعلى محمد صلى الله عليه وسلم عن تصديقه وموازرته ونصرته, وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية لـ {أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده} ولا حسد أعظم من هذا, قال ابن إسحاق, عن محمد, عن عكرمة أو سعيد, عن ابن عباس {بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده} أي أن الله جعله من غيرهم {فباءوا بغضب على عضب} قال ابن عباس: في الغضب على الغضب, فغضب عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم, وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي بعث الله إليهم (قلت) ومعنى {باءوا} استوجبوا واستحقوا واستقروا بغضب على غضب, وقال أبو العالية: غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى, ثم غضب الله عليهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن, وعن عكرمة وقتادة مثله, قال السدي: أما الغضب الأول, فهو حين غضب عليهم في العجل, وأما الغضب الثاني, فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم, وعن ابن عباس مثله. وقوله تعالى: {وللكافرين عذاب مهين} لما كان كفرهم سببه البغي والحسد, ومنشأ ذلك التكبر, قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والاَخرة, كما قال تعالى: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} أي صاغرين حقيرين ذليلين راغمين, وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى, حدثنا ابن عجلان, عن عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال:«يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجناً في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار} .


** وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ * وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مّوسَىَ بِالْبَيّنَاتِ ثُمّ اتّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ
يقول تعالى: {وإذا قيل لهم} أي لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب {آمنوا بما أنزل الله} على محمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه واتبعوه {قالوا نؤمن بما أنزل علينا} أي يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوراة والإنجيل ولا نقر إلا بذلك {ويكفرون بما وراءه} يعني بما بعده {وهو الحق مصدقاً لما معهم} أي وهم يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم {الحق مصدقاً لما معهم} منصوباً على الحال, أي في حال تصديقه لما معهم من التوراة والإنجيل, فالحجة قائمة عليهم بذلك, كما قال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} ثم قال تعالى: {فلم تقتلون أنبياء اللهمن قبل إن كنتم مؤمنين} أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم, فلم قتلتم الأنبياء الذين جاؤوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها, وأنتم تعلمون صدقهم ؟ قتلتموهم بغياً وعناداً واستكباراً على رسل الله, فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والاَراء والتشهي, كما قال تعالى: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون} وقال السدي: في هذه الاَية يعيرهم الله تبارك وتعالى: {قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} وقال أبو جعفر بن جرير: قل يا محمد ليهود بني إسرائيل إذا قلت لهم آمنوا بما أنزل الله, قالوا: نؤمن بما أنزل علينا لم تقتلون ـ إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله ـ أنبياء الله يا معشر اليهود وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم, بل أمركم باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم, وذلك من الله تكذيب لهم في قولهم: نؤمن بما أنزل علينا وتعيير لهم {ولقد جاءكم موسى بالبينات} أي بالاَيات الواضحات والدلائل القاطعات على أنه رسول الله, وأنه لا إله إلا الله, والاَيات البينات هي: الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد, وفرق البحر وتظليلهم بالغمام والمن والسلوى والحجر وغير ذلك من الاَيات التي شاهدوها ثم اتخذتم العجل أي معبوداً من دون الله في زمان موسى وأيامه, وقوله: من بعده, أي من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله عز وجل, كما قال تعالى: {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار}, {وأنتم ظالمون} , أي وأنتم ظالمون في هذا الصنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل وانتم تعلمون أنه لا إله إلا الله كما قال تعالى: {ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين} .


** وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطّورَ خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ
يعدد سبحانه وتعالى عليهم خطأهم, ومخالفتهم للميثاق, وعتوهم وإعراضهم عنه, حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه ولهذا {قالوا سمعنا وعصينا} وقد تقدم تفسير ذلك {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} قال عبد الرزاق, عن معمر عن قتادة {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} قال أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم, وكذا قال أبو العالية والربيع بن أنس, وقال الإمام أحمد: حدثنا عصام بن خالد, حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني, عن خالد بن محمد الثقفي, عن بلال بن أبي الدرداء, عن أبي الدرداء, عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال «حبك الشيء يعمي ويصم» ورواه أبو داود عن حيوة بن شريح, عن بقية, عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به, وقال السدي: أخذ موسى عليه السلام, العجل فذبحه بالمبرد, ثم ذراه في البحر, ثم لم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء, ثم قال لهم موسى, اشربوا منه, فشربوا, فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب, فذلك حين يقول الله تعالى: {وأشربوا في قلوبهم العجل} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الله بن رجاء, حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن عمارة بن عمير وأبي عبد الرحمن السلمي, عن علي رضي الله عنه, قال: عمد موسى إلى العجل, فوضع عليه المبارد فبرده بها, وهو على شاطىء نهر, فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب, وقال سعيد بن جبير {وأشربوا في قلوبهم العجل} قال: لما أحرق العجل, برد ثم نسف, فحسوا الماء حتى عادت وجوههم كالزعفران, وحكى القرطبي عن كتاب القشيري: أنه ما شرب أحد «منه» ممن عبد العجل إلا جن, ثم قال القرطبي: وهذا شيء غير ما ههنا, لأن المقصود من هذا السياق: أنه ظهر على شفاههم ووجوههم, والمذكور ههنا: أنهم أشربوا في قلوبهم العجل, يعني في حال عبادتهم له, ثم أنشد قول النابغة في زوجته عثمة:
تغلغل حب عثمة في فؤاديفباديه مع الخافي يسيرتغلغل حيث لم يبلغ شرابولا حزن ولم يبلغ سرورأكاد إذ ذكرت العهد منهاأطير لو أن إنساناً يطير

وقوله {قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين} أي بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه من كفركم بآيات الله, ومخالفتكم الأنبياء ثم اعتمادكم في كفركم بمحمد صلى الله عليه وسلم وهذا أكبر ذنوبكم وأشد الأمر عليكم إذ كفرتم بخاتم الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين, المبعوث إلى الناس أجمعين, فكيف تدّعون لأنفسكم الإيمان, وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة: من نقضكم المواثيق, وكفركم بآيات الله, وعبادتكم العجل من دون الله ؟.


** قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مّن دُونِ النّاسِ فَتَمَنّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمينَ * وَلَتَجِدَنّهُمْ أَحْرَصَ النّاسِ عَلَىَ حَيَاةٍ وَمِنَ الّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
قال محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة أو سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنه, يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قل إن كانت لكم الدار الاَخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب, فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم {ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم, والله عليم بالظالمين} أي بعلمهم بما عندهم من العلم بل والكفر بذلك ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات. وقال الضحاك عن ابن عباس: فتمنوا الموت فسلوا الموت وقال عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة قوله: فتمنوا الموت إن كنتم صادقين. قال: قال ابن عباس: لو تمنى يهود الموت, لماتوا. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا عثام: سمعت الأعمش قال: لا أظنه إلا عن المنهال, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه, وهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس, وقال ابن جرير في تفسيره: وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم, قال «لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا, ولرأوا مقاعدهم من النار ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً», حدثنا بذلك أبو كريب, حدثنا زكريا بن عدي, حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم, عن عكرمة, عن ابن عباس, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ورواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن يزيد الرقي, حدثنا فرات عن عبد الكريم به, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن أحمد, حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار, حدثنا سرور بن المغيرة, عن عباد بن منصور, عن الحسن, قال: قول الله: ما كانوا ليتمنوه بما قدمت أيديهم, قلت: أرأيتك لو أنهم أحبوا الموت حين قيل لهم تمنوا الموت أتراهم كانوا ميتين, قال: لا والله ما كانوا ليموتوا ولو تمنوا الموت, وما كانوا ليتمنوه, وقد قال الله ما سمعت{ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين} وهذا غريب عن الحسن, ثم هذا الذي فسر به ابن عباس الاَية, هو المتعين وهو الدعاء على أي الفريقي أكذب منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة, ونقله ابن جرير عن قتادة وأبي العالية والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى, ونظير هذه الاَية قوله تعالى في سورة الجمعة {قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين * قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} فهم عليهم لعائن الله تعالى, لما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه, قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كانوا يهوداً أو نصارى, دعوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم أو من المسلمين, لما نكلوا عن ذلك, علم كل أحد إنهم ظالمون, لأنهم لو كانوا جازمين بما هم فيه, لكانوا أقدموا على ذلك, فلما تأخروا, علم كذبهم وهذا كما دعا رسول الله وفد نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم في المناظرة وعتوهم وعنادهم إلى المباهلة, فقال: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} فلما رأوا ذلك, قال بعض القوم لبعض: والله لئن باهلتم هذا النبي لا يبقى منكم عين تطرف, فعند ذلك جنحوا للسلم, وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون, فضربها عليهم, وبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح أميناً, ومثل هذا المعنى أو قريب منه قول الله تعالى لنبيه أن يقول للمشركين {قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً} أي من كان في الضلالة منا ومنكم فزاده الله مما هو فيه ومد له واستدرجه, كما سيأتي تقريره في موضعه, إن شاء الله تعالى.
أما من فسر الاَية على معنى {إن كنتم صادقين} أي في دعواكم, فتمنوا الاَن الموت, ولم يتعرض هولاء للمباهلة, كما قرره طائفة من المتكلمين وغيرهم, ومال إليه ابن جرير بعد ما قارب القول الأول, فإنه قال: القول في تأويل قوله تعالى: {قل إن كانت لكم الدار الاَخرة عند الله خالصة من دون الناس} الاَية, فهذه الاَية مما احتج الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره, وفضح بها أحبارهم وعلماءهم وذلك أن الله تعالى أمر نبيه إلى قضية عادلة فيما كان بينه وبينهم من الخلاف, كما أمره أن يدعو الفريق الاَخر من النصارى إذ خالفوه في عيسى ابن مريم عليه السلام, وجادلوه فيه إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة, فقال لفريق اليهود: إن كنتم محقين فتمنوا الموت, فإن ذلك غير ضاركم إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله لكم لكي يعطيكم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم, فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها والفوز بجوار الله في جناته إن كان الأمر كما تزعمون, من أن الدار الاَخرة لكم خاصة دوننا, وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا, وانكشف أمرنا وأمركم لهم, فامتنعت اليهود من الإجابة إلى ذلك لعلمها, أنها إن تمنت الموت هلكت فذهبت دنياها, وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها, كما امتنع فريق النصارى الذين جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى إذ دعوا للمباهلة من المباهلة.
فهذا الكلام منه أوله حسن, وآخره فيه نظر, وذلك أنه لا تظهر الحجة عليهم على هذا التأويل, إذ يقال: إنه لا يلزم من كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم, أنهم يتمنون الموت, فإنه لا ملازمة بين وجود الصلاح وتمني الموت, وكم من صالح لا يتمنى الموت, بل يود أن يعمر ليزداد خيراً وترتفع درجته في الجنة, كما جاء في الحديث «خيركم من طال عمره, وحسن عمله» ولهم مع ذلك أن يقولوا على هذا: فها أنتم تعتقدون أيها المسلمون أنكم أصحاب الجنة وأنتم لا تتمنون في حال الصحة الموت, فكيف تلزموننا بما لا يلزمكم ؟ وهذا كله إنما نشأ من تفسير الاَية على هذا المعنى, فأما على تفسير ابن عباس: فلا يلزم عليه شيء من ذلك, بل قيل لهم كلام نصف إن كنتم تعتقدون أنكم أولياء الله من دون الناس, وأنكم أبناء الله وأحباؤه, وأنكم من أهل الجنة ومن عداكم من أهل النار, فباهلوا على ذلك وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم, واعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة, فلما تيقنوا ذلك وعرفوا صدقه, نكلوا عن المباهلة لما يعلمون من كذبهم وافترائهم وكتمانهم الحق من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم ونعته, وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويتحققونه, فعلم كل أحد باطلهم وخزيهم وضلالهم وعنادهم, عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة, وسميت هذه المباهلة تمنياً, لأن كل محق يود لو أهلك الله المبطل المناظر له, ولا سيما إذا كان في ذلك حجة له في بيان حقه وظهوره, وكانت المباهلة بالموت لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت, ولهذا قال تعالى: {ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين, ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} أي على طول العمر لما يعلمون من مآلهم السيء, وعاقبتهم عند الله الخاسرة, لأن الدنيا سجن المؤمن, وجنة الكافر, فهم يودون لو تأخروا عن مقام الاَخرة بكل ما أمكنهم, وما يحاذرون منه واقع بهم لا محالة حتى وهم أحرص من المشركين الذين لا كتاب لهم, وهذا من باب عطف الخاص على العام, قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, عن سفيان, عن الأعمش, عن مسلم البطين, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس {ومن الذي أشركوا ؟} قال: الأعاجم, وكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث الثوري, وقال: صحيح على شرطهما, ولم يخرجاه. قال: وقد اتفقا على سند تفسير الصحابي, وقال الحسن البصري: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة. قال: المنافق أحرص الناس, وأحرص من المشرك على حياة, يود أحدهم أي يود أحد اليهود, كما يدل عليه نظم السياق, وقال أبو العالية: يود أحدهم, أي أحد المجوس, وهو يرجع إلى الأول لو يعمر ألف سنة, قال الأعمش, عن مسلم البطين, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} قال: هو كقول الفارسي «ده هزارسال» يقول: عشرة آلاف سنة. وكذا روي عن سعيد بن جبير نفسه أيضاً, وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق: سمعت أبي يقول: حدثنا أبو حمزة, عن الأعمش عن مجاهد, عن ابن عباس في قوله {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} قال هو قول الأعاجم هزارسال نوروز ومهرجان وقال مجاهد {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} قال: حببت إليهم الخطيئة طول العمر, وقال مجاهد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن سعيد أو عكرمة, عن ابن عباس {وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر} أي وما هو بمنجيه من العذاب, وذلك أن المشرك لا يرجو بعثاً بعد الموت, فهو يحب طول الحياة, وأن اليهودي قد عرف ما له في الاَخرة من الخزي, بما ضيع ما عنده من العلم, وقال عوفي عن ابن عباس {وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر} قال: هم الذين عادوا جبرائيل, قال أبو العالية وابن عمر: فما ذاك بمغيثه من العذاب, ولا منجيه منه. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الاَية: يهود أحرص على الحياة من هؤلاء, وقد ودّ هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة, وليس بمزحزحه من العذاب لو عمر كما أن عمر إبليس لم ينفعه إذ كان كافراً, {والله بصير بما يعملون} أي خبير بصير بما يعمل عباده من خير وشر, وسيجازي كل عامل بعمله.


** قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لّجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نَزّلَهُ عَلَىَ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىَ لِلْمُؤْمِنِينَ * مَن كَانَ عَدُوّاً للّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنّ اللّهَ عَدُوّ لّلْكَافِرِينَ
قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله: أجمع أهل العلم بالتأويل جميعاً أن هذه الاَية نزلت جواباً لليهود من بني إسرائيل, إذ زعموا أن جبريل عدوّ لهم, وأن ميكائيل ولي لهم, ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك, فقال بعضهم: إنما كان سبب قيلهم ذلك, من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر نبوته (ذكر من قال ذلك) حدثنا أبو كريب, حدثنا يونس بن بكير عن عبد الحميد بن بهرام, عن شهر بن حوشب, عن ابن عباس, أنه قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: يا أبا القاسم, حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سلوا عما شئتم, ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على بنيه لئن أنا حدثتكم عن شيء فعرفتموه لتتابعنني على الإسلام» فقالوا: ذلك لك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سلوا عما شئتم» قالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن, أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل, وكيف يكون الذكر منه والأنثى ؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في التوراة, ومن وليه من الملائكة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم, «عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعنني ؟» فأعطوه ما شاء الله من عهد وميثاق, فقال: «نشدتكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضاً شديداً, فطال سقمه منه, فنذر لله نذراً لئن عافاه الله من مرضه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه, وكان أحب الطعام إليه: لحوم الإبل, وأحب الشراب إليه ألبانها» فقالوا: اللهم نعم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اشهد عليهم, وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ أبيض, وأن ماء المرأة رقيق أصفر, فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله عز وجل, وإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكراً بإذن الله, وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله عز وجل» قالوا: اللهم نعم, «قال اللهم أشهد, وأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه» ؟ قالوا: اللهم نعم, قال: «اللهم اشهد», قالوا: أنت الاَن فحدثنا من وليك من الملائكة, فعندها نجامعك أو نفارقك, قال: «فإن وليي جبريل, ولم يبعث الله نبياً قط إلا وهو وليه» قالوا: فعندها نفارقك, ولو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك, قال: «فما يمنعكم أن تصدقوه» ؟ قالوا: إنه عدونا, فأنزل الله عز وجل: {قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه ـ إلى قوله ـ لو كانوا يعلمون} فعندها باؤوا بغضب على غضب, وقد رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي النضر هاشم بن القاسم وعبد الرحمن بن حميد في تفسيره عن أحمد بن يونس كلاهما عن عبد الحميد بن بهرام به, ورواه أحمد أيضاً عن الحسين بن محمد المروزي عن عبد الحميد بنحوه وقد رواه محمد بن إسحاق بن يسار, حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين, عن شهر بن حوشب, فذكره مرسلاً وزاد فيه, قالوا فأخبرنا عن الروح, قال: «فأنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أنه جبريل وهوالذي يأتيني» قالوا: اللهم نعم, ولكنه عدو لنا, وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء, فلولا ذلك اتبعناك, فأنزل الله تعالى فيهم: {قل من كان عدواً لجبريل ـ إلى قوله ـ لا يعلمون} وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو أحمد, حدثنا عبد الله بن الوليد العجلي عن بكير بن شهاب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم, أخبرنا عن خمسة أشياء, فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك, فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال: والله على ما نقول وكيل, قال «هاتوا» قالوا: فأخبرنا عن علامة النبي ؟ قال: «تنام عيناه ولا ينام قلبه» قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة ؟ وكيف يذكر الرجل ؟ قال: «يلتقي الماءان, فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت, وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت» قالوا: أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه ؟ قال: «وكان يشتكي عرق النسا, فلم يجد شيئاً يلائمه إلا ألبان كذا وكذا» قال أحمد: قال بعضهم: يعني الإبل فحرم لحومها, قالوا: صدقت, قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد ؟ قال: «ملك من ملائكة الله عز وجل موكل بالسحاب بيديه أو في يديه مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله تعالى» قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع ؟ قال: «صوته» قالوا: صدقت, قالوا: إنما بقيت واحدة, وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها, أنه ليس من نبي إلا وله ملك يأيته بالخبر, فأخبرنا من صاحبك ؟ قال: «جبريل عليه السلام» قالوا: جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان, فأنزل الله تعالى: {قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} إلى آخر الاَية, ورواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن الوليد به, وقال الترمذي: حسن غريب وقال سنيد في تفسيره عن حجاج بن محمد عن ابن جريج: أخبرني القاسم بن أبي بزة أن يهوداً سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي, قال: «جبريل» قالوا: فإنه عدو لنا ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال, فنزلت: {قل من كان عدواً لجبريل} الاَية, قال ابن جرير: قال مجاهد: قالت يهود: يا محمد ما نزل جبريل إلا بشدة وحرب وقتال فإنه لنا عدو, فنزل: {قل من كان عدواً لجبريل} الاَية, قال البخاري: قوله تعالى: {من كان عدواً لجبريل} قال عكرمة جبر وميك وإسراف: عبد. إيل: الله, حدثنا عبد الله بن منير سمع عبد الله بن بكر, حدثنا حميد عن أنس بن مالك, قال: سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة, وما أول طعام أهل الجنة, وما ينزع الوالد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال: «أخبرني بهذه جبرائيل آنفاً» قال: جبريل ؟ قال: «نعم» قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة, فقرأ هذه الاَية: {من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك} «وأما أول أشراط الساعة, فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة, فزيادة كبد الحوت, وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة, نزع الولد, وإذا سبق ماء المرأة نزعت» قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. يا رسول الله,
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://domoo3.own0.com/
RoMa
Admin
RoMa


عدد المساهمات : 1980
نقاط : 6051
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 04/09/2011
العمر : 29
الموقع : دموع عيون حبيبى

تفسير سورة البقرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة   تفسير سورة البقرة I_icon_minitimeالأحد أكتوبر 30, 2011 11:16 pm

زريع, عن سعيد عن قتادة, قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انظلق ذات يوم إلى اليهود, فلما انصرف ورحبوا به, فقال لهم عمر: وأما والله ما جئتكم لحبكم ولا لرغبة فيكم, ولكن جئت لأسمع منكم, فسألهم وسألوه, فقالوا: من صاحب صاحبكم ؟ فقال لهم: جبرائيل, فقالوا: ذاك عدونا من أهل السماء يطلع محمداً على سرنا, وإذا جاء جاء بالحرب والسنة, ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل, وكان إذا جاء جاء بالخصب والسلم, فقال لهم عمر: هل تعرفون جبرائيل, وتنكرون محمداً صلى الله عليه وسلم ؟ ففارقهم عمر عند ذلك وتوجه نحو النبي صلى الله عليه وسلم ليحدثه حديثهم, فوجده قد أنزلت عليه هذه الاَية: {قل من كان عدواً لجبريل فإنه على قلبك بإذن الله} الاَيات.
ثم قال: حدثني المثنى, حدثنا آدم, حدثنا أبو جعفر, حدثنا قتادة, قال: بلغنا أن عمر أقبل إلى اليهود يوماً فذكر نحوه, وهذا في تفسير آدم وهو أيضاً منقطع, وكذلك رواه أسباط عن السدي عن عمر مثل هذا أو نحوه, وهو منقطع أيضاً: وقال ابن أبن حاتم: حدثنا محمد بن عمار, حدثنا عبد الرحمن يعني الدشتكي, حدثنا أبو جعفر عن حصين بن عبد الرحمن, عن عبد الرحمن وهو عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن يهودياً لقي عمر بن الخطاب, فقال: إن جبرائيل الذي يذكر صاحبكم عدو لنا, فقال عمر {من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو الكافرين} قال: فنزلت على لسان عمر رضي الله عنه, ورواه عبد بن حميد عن أبي النضر هاشم بن القاسم, عن أبي جعفر هو الرازي, وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم, حدثني هشيم, أخبرنا حصين بن عبد الرحمن, عن ابن أبي ليلى في قوله تعالى: {من كان عدواً لجبريل} قال: قالت اليهود للمسلمين: لو أن ميكائيل كان هو الذي ينزل عليكم اتبعناكم, فإنه ينزل بالرحمة والغيث, وإن جبرائيل ينزل بالعذاب والنقمة, فإنه عدو لنا, قال: فنزلت هذه الاَية, حدثنا يعقوب, أخبرنا هشيم, أخبرنا عبد الملك عن عطاء بنحوه, وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: {قل من كان عدواً لجبريل} قال: قالت اليهود: إن جبرائيل عدو لنا, لأنه ينزل بالشدة والسنة, وإن ميكائيل ينزل بالرخاء والعافية والخصب, فجبرائيل عدو لنا. فقال الله تعالى: {من كان عدواً لجبريل} الاَية.
وأما تفسير الاَية فقوله تعالى: {قل من كان عدواً لجبريل} فإنه نزله على قلبك بإذن الله, أي من عادى جبرائيل فليعلم أنه الروح الأمين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه له في ذلك, فهو رسول من رسل الله ملكي, ومن عادى رسولاً فقد عادى جميع الرسل, كما أن من آمن برسول يلزمه الإيمان بجيمع الرسل, وكما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل, كما قال تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض} الاَيتين, فحكم عليهم بالكفر المحقق إذا آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم, وكذلك من عادى جبرائيل
فإنه عدو لله, لأن جبرائيل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه وإنما ينزل بأمر ربه, كما قال: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} الاَية, وقال تعالى: {وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين}, وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب» ولهذا غضب الله لجبرائيل على من عاده, فقال تعالى: {من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه} أي من الكتب المتقدمة: {وهدى وبشرى للمؤمنين} أي هدى لقلوبهم وبشرى لهم بالجنة, وليس ذلك إلا للمؤمنين, كما قال تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء} الاية: وقال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} الاَية, ثم قال تعالى: {من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو الكافرين} يقول تعالى من عاداني وملائكتي ورسلي, ورسله تشمل رسله من الملائكة والبشر, كما قال تعالى {الله يصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس}. {وجبريل وميكال} وهذا من باب عطف الخاص على العام, فإنهما دخلا في الملائكة في عموم الرسل, ثم خصصا بالذكر لأن السياق في الانتصار لجبرائيل, وهو السفير بين الله وأنبيائه, وقرن معه ميكائيل في اللفظ, لأن اليهود زعموا أن جبرائيل عدوهم, وميكائيل, وليهم, فأعلمهم الله تعالى أن من عادى واحداً منهما فقد عادى الاَخر وعادى الله أيضاً, ولأنه أيضاً ينزل على أنبياء الله بعض الأحيان, كما قرن برسول الله صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر, ولكن جبرائيل أكثر وهي وظيفته وميكائيل موكل بالنبات والقطر هذا بالهدى وهذا بالرزق كما أن إسرافيل موكل بالنفخ في الصور للبعث يوم القيامة, ولهذا جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يقول: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل, فاطر السموات والأرض, عالم الغيب والشهادة, أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون, اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك, إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» وقد تقدم ما حكاه البخاري, ورواه ابن جرير عن عكرمة وغيره أنه قال, جبر, وميك, وإسراف: عبيد, وإيل:الله, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان, عن الأعمش, عن إسماعيل بن أبي رجاء, عن عمير مولى ابن عباس, عن ابن عباس, قال: إنما كان قوله جبرائيل كقوله عبد الله وعبد الرحمن وقيل جبر: عبد, وإيل: الله. وقال محمد بن إسحاق عن الزهري, عن علي بن الحسين, قال: أتدرون ما اسم جبرائيل من أسمائكم ؟ قلنا: لا, قال: اسمه عبد الله, وكل اسم مرجعه إلى إيل فهو إلى الله عز وجل. قال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة ومجاهد والضحاك ويحيى بن يعمر, نحو ذلك. ثم قال: حدثني أبي حدثنا أحمد بن أبي الحواري حدثني عبد العزيز بن عمير قال: اسم جبرائيل في الملائكة خادم الله, قال فحدثت به أبا سليمان الداراني فانتفض, وقال: لهذا الحديث أحب إلى من كل شيء في دفتر كان بين يديه. وفي جبرائيل وميكائيل لغات وقراءات تذكر في كتب اللغة والقراءات, ولم نطول كتابنا هذا بسرد ذلك إلا أن يدور فهم المعنى عليه, أو يرجع الحكم في ذلك إليه, وبالله الثقة وهو المستعان, وقوله تعالى: {فإن الله عدو للكافرين} فيه إيقاع المظهر مكان المضمر حيث لم يقل: فإنه عدو, بل قال: {فإن الله عدو للكافرين} كما قال الشاعر:
لا أرى الموت يسبق الموت شيءنَغّص الموت ذا الغنى والفقيرا

وقال الاَخر:
ليت الغراب غداة ينعب دائباًكان الغراب مقطع الأوداج

وإنما أظهر لله هذا الاسم ههنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره, وإعلامهم أن من عادى ولياً لله فقد عادى الله, ومن عادى الله فإن الله عدو له, ومن كان الله عدوه فقد خسر الدنيا والاَخرة, كما تقدم الحديث «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالمحاربة» وفي الحديث الأخر «إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب» وفي الحديث الصحيح «من كنت خصمه خصمته».


** وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاّ الْفَاسِقُونَ * أَوَكُلّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَمّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَاتّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشّيَاطِينُ عَلَىَ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـَكِنّ الشّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّىَ يَقُولاَ إِنّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلّمُونَ مَا يَضُرّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنّهُمْ آمَنُواْ واتّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مّنْ عِندِ اللّهِ خَيْرٌ لّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
قال الإمام أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى: {ولقد أنزلنا إليك آيات بينات} الاَية, أي أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات, دالات على نبوتك, وتلك الاَيات هي ماحواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود, ومكنونات سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل, والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم وما حرّفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة فأطلع الله في كتابه الذي أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم, فكان في ذلك من أمره الاَيات البينات لمن أنصف من نفسه ولم يدعها إلى هلاكها الحسد والبغي, إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة تصديق من أتى بمثل ماجاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الاَيات البينات التي وصف من غير تعلم تعلمه من بشر, ولاأخذ شيئاً منه عن آدمي, كما قال الضحاك عن ابن عباس {ولقد أنزلنا إليك آيات بينات} يقول: فأنت تتلوه عليهم وتخبرهم به غدوة وعشية وبين ذلك, وأنت عندهم أمي لم تقرأ كتاباً, وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه, يقول الله تعالى في ذلك عبرة وبيان, وعليهم حجة لوكانوا يعلمون. وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: قال ابن صوريا القطويني لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يامحمد, ما جئتنا بشيء نعرفه, وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك, فأنزل الله في ذلك من قوله {ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون} وقال مالك بن الصيف حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم: وذكرهم ما أخذ عليهم من الميثاق وما عهد إليهم في محمد صلى الله عليه وسلم, والله ما عهد إلينا في محمد, وما أخذ علينا ميثاقاً, فأنزل الله تعالى {أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم} وقال الحسن البصري: في قوله{بل أكثرهم لا يؤمنون} قال: نعم, ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه, يعاهدون اليوم وينقضون غداً. وقال السدي: لا يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة: نبذه فريق منهم, أي نقضه فريق منهم. وقال ابن جرير: أصل النبذ الطرح والإلقاء, ومنه سمي اللقيط منبوذاً, ومنه سمي النبيذ, وهو التمر والزبيب إذا طرحا في الماء, قال أبو الأسود الدؤلي:
نظرت إلى عنوانه فنبذبتهكنبذك نعلاً أخلقت من نعالكا

قلت: فالقوم ذمهم الله بنبذهم العهود التي تقدم الله إليهم في التمسك بها والقيام بحقها, ولهذا أعقبهم ذلك التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة الذي في كتبهم نعته وصفته وأخباره, وقد أمروا فيها باتباعه ومؤازرته ونصرته, كما قال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل} الاَية, وقال ههنا{ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم} الاَية, أي طرح طائفة منهم كتاب الله الذي بأيديهم مما فيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم, أي تركوها كأنهم لا يعلمون ما فيها, وأقبلوا على تعلم السحر واتباعه, ولهذا أرادوا كيداً برسول الله صلى الله عليه وسلم وسحروه في مشط ومشاقة وجف طلعة ذكر تحت راعوفة ببئر أروان, وكان الذي تولى ذلك منهم رجل يقال له: لبيد بن الأعصم لعنه الله وقبحه, فأطلع الله على ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم وشفاه منه وأنقذه, كما ثبت ذلك مبسوطاً في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها, كما سيأتي بيانه. قال السدي {ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم} قال: لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة, فخاصموه بها, فاتفقت التوراة والقرآن, فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف, وسحر هاروت وماروت, فلم يوافق القرآن فذلك قوله{كأنهم لايعلمون} وقال قتادة في قوله {كأنهم لايعلمون} قال: إن القوم كانوا يعلمون, ولكنهم نبذوا علمهم وكتموه وجحدوا به, وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس في قوله تعالى: {واتبعوا ما تتلوالشياطين} الاَية, وكان حين ذهب ملك سليمان ارتد فئات من الجن والإنس واتبعوا الشهوات, فلما أرجع الله إلى سليمان ملكه, وقام الناس على الدين كما كان, وأن سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه, وتوفي سليمان عليه السلام حدثان ذلك, فظهر الإنس والجن على الكتب بعد وفاة سليمان وقالوا: هذا كتاب من الله نزل على سليمان فأخفاه عنا, فأخذوا به فجعلوه ديناً, فأنزل الله تعالى {ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم} الاَية واتبعوا الشهوات التي كانت تتلوا الشياطين, وهي المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو أسامة عن الأعمش, عن المنهال, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: كان آصف كاتب سليمان, وكان يعلم الاسم الأعظم, وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه, فلما مات سليمان أخرجته الشياطين, فكتبوا بين كل سطرين سحراً وكفراً, وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل بها. قال: فأكفره جهال الناس وسبوه, ووقف علماء الناس, فلم يزل جهال الناس يسبونه حتى أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا} وفال ابن جرير: حدثني أبو السائب سلم بن جنادة السوائي, حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن المنهال, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: كان سليمان عليه السلام إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئاً من نسائه, أعطى الجرادة وهي امرأة خاتمه, فلما أراد الله أن يبتلي سليمان عليه السلام بالذي ابتلاه به, أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه, فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال: هاتي خاتمي, فأخذه ولبسه, فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس. قال: فجاءها سليمان, فقال لها: هاتي خاتمي, فقالت: كذبت لست سليمان, قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به. قال: فانطلقت الشياطين, فكتبت في تلك الأيام كتباً فيها سحر وكفر, فدفنوها تحت كرسي سليمان,ثم أخرجوها وقرؤوها على الناس وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب, قال فبرىء الناس من سليمان وكفروه حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه{وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا} ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا جرير عن حصين بن عبد الرحمن, عن عمران وهو ابن الحارث, قال: بينما نحن عند ابن عباس رضي الله عنهما, إذ جاء رجل فقال له: من أين جئت ؟ قال: من العراق, قال: من أية ؟ قال: من الكوقة, قال: فما الخبر ؟ قال: تركتهم يتحدثون أن علياً خارج اليهم ففزع, ثم قال: ما تقول لا أبا لك ؟ لو شعرنا ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه, أما إني سأحدثكم عن ذلك, إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء فيجيء أحدهم بكلمة حق قد سمعها, فإذا جُرّب منه وصدق, كذب معها سبعين كذبة, قال: فتشربها قلوب الناس قال: فأطلع الله عليها سليمان عليه السلام, فدفنها تحت كرسيه, فلما توفي سليمان عليه السلام, قام شيطان الطريق, فقال: هل أدلكم على كنزه الممنع الذي لا كنز له مثله ؟ تحت الكرسي. فأخرجوه, فقال: هذا سحر, فتناسخها الأمم حتى بقاياها ما يتحدث به أهل العراق, فأنزل الله عز وجل {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا} الاَية, وروى الحاكم في مستدركه عن أبي زكريا العنبري, عن محمد بن عبد السلام عن إسحق بن إبراهيم عن جرير به.
وقال السدي في قوله تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} أي على عهد سليمان, قال: كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع, فيستمعون من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موت أو غيب أو أمر, فيأتون الكهنة فيخبرونهم, فتحدث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا, فلما أمنتهم الكهنة كذبوا لهم وأدخلوا فيه غيره, فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة, فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب, وفشا ذلك في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب, فبعث سليمان في الناس, فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق, ثم دفنها تحت كرسيه ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق, وقال: لا أسمع أحداً يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه, فلما مات سليمان, وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان, وخلف من بعد ذلك خلف, تمثل الشيطان في صورة إنسان ثم أتى نفراً من بني إسرائيل فقال لهم: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبداً ؟ قالوا: نعم, قال: فاحفروا تحت الكرسي, فذهب معهم وأراهم المكان وقام ناحيته, فقالوا له: فادن, فقال: لا ولكنني ههنا في أيديكم, فإن لم تجدوه فاقتلوني, فحفروا فوجدوا تلك الكتب, فلما أخرجوها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر ثم طار وذهب وفشا في الناس أن سليمان كان ساحراً, واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب, فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها فذلك حين يقول الله تعالى {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا}, وقال الربيع بن أنس: إن اليهود سألوا محمداً صلى الله عليه وسلم زماناً عن أمور من التوراة لا يسألونه عن شيء من ذلك إلاأنزل الله سبحانه وتعالى ما سألوه عنه, فيخصمهم فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل الله إلينا منا. وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به, فأنزل الله عز وجل {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك, فدفنوه تحت كرسي مجلس سليمان وكان عليه السلام لا يعلم الغيب, فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا الناس وقالوا: هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه, فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث فرجعوا من عنده وقد أدحض الله حجتهم, وقال مجاهد في قوله تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} قال: كانت الشياطين تستمع الوحي فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مائتين مثلها, فأرسل سليمان عليه السلام إلى ما كتبوا من ذلك, فلما توفي سليمان وجدته الشياطين وعلمته الناس وهو السحر, وقال سعيد بن جبير: كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر فيأخذه منهم فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه فدنت إلى الإنس فقالوا لهم أتدرون ما العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك ؟ قالوا: نعم, قالوا: فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه فاستشار به الإنس واستخرجوه وعملوا بها, فقال أهل الحجاز: كان سليمان يعلم بهذا وهذا سحر فأنزل الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان عليه السلام فقال تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا} وقال محمد بن إسحاق بن يسار: عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليه السلام, فكتبوا أصناف السحر, من كان يحب أن يبلغ كذا فليفعل كذا وكذا حتى إذا صنفوا أصناف السحر, جعلوه في كتاب ثم ختموه بخاتم على نقش خاتم سليمان وكتبوا في عنوانه: هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم. ثم دفنوه تحت كرسيه واستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حتى أحدثوا ما أحدثوا فلما عثروا عليه قالوا: والله ما كان ملك سليمان إلا بهذا, فأفشوا السحر في الناس فتعلموه وعلموه, فليس هو في أحد أكثر منه في اليهود لعنهم الله, فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نزل عليه من الله سليمان بن داود وعده فيمن عد من المرسلين, قال من كان بالمدينة من اليهود: ألا تعجبون من محمد يزعم أن ابن داود كان نبياً والله ما كان إلا ساحراً. وأنزل الله في ذلك من قولهم {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا} الاَية, وقال ابن جرير: حدثنا القاسم: حدثنا حسين حدثنا الحجاج عن أبي بكر عن شهر بن حوشب, قال: لما سلب سليمان ملكه كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان, فكتبت من أراد أن يأتي كذا وكذا فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا, ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا, فكتبته وجعلت عنوانه: هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود عليهما السلام من ذخائر كنوز العلم ثم دفنه تحت كرسيه, فلما مات سليمان عليه السلام, قام إبليس لعنه الله خطيباً فقال: ياأيها الناس إن سليمان لم يكن نبياً إنما كان ساحراً فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته, ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه, فقالوا: والله لقد كان سليمان ساحراً هذا سحره بهذا تعبدنا وبهذا قهرنا, فقال المؤمنون: بل كان نبياً مؤمناً, فلما بعث الله النبي محمداً صلى الله عليه وسلم وذكر داود وسليمان فقالت اليهود: انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل, يذكر سليمان مع الأنبياء إنما كان ساحراً يركب الريح, فأنزل الله تعالى {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان} الاَية, وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني, حدثنا المعتمر بن سليمان, قال: سمعت عمران بن حدير عن أبي مجلز قال: أخذ سليمان عليه السلام من كل دابة عهداً فإذا أصيب رجل فسأل بذلك العهد خلي عنه, فزاد الناس السجع والسحر, فقالوا: هذا يعمل به سليمان بن داود عليهما السلام, فقال الله تعالى: {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر}, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن رواد حدثنا آدم حدثنا المسعودي عن زياد مولى ابن مصعب عن الحسن {واتبعوا ما تتلوا الشياطين} قال: ثلث الشعر وثلث السحر وثلث الكهانة, وقال: حدثنا الحسن بن أحمد حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار الواسطي حدثني سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور عن الحسن {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} وتبعته اليهود على ملكه وكان السحر قبل ذلك في الأرض لم يزل بها, ولكنه إنما اتبع على ملك سليمان, فهذه نبذة من أقوال أئمة السلف في هذا المقام, ولا يخفى ملخص القصة والجمع بين أطرافها وأنه لا تعارض بين السياقات على اللبيب الفهم, والله الهادي. وقوله تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} أي واتبعت اليهود الذين أوتوا الكتاب من بعد إعراضهم عن كتاب الله الذي بأيديهم, ومخالفتهم لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ما تتلوه الشياطين, أي ما ترويه وتخبر به وتحدثه الشياطين على ملك سليمان, وعداه بعلى لأنه تضمن تتلو تكذب, وقال ابن جرير «على» ههنا بمعنى في, أي تتلوا في ملك سليمان, ونقله عن ابن جريج وابن إسحاق (قلت) والتضمن أحسن وأولى, والله أعلم. وقول الحسن البصري رحمه الله وكان السحر قبل زمان سليمان بن داود ـ صحيح لا شك فيه, لأن السحرة كانوا في زمان موسى عليه السلام وسليمان بن داود بعده, كما قال تعالى {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى} الاَية, ثم ذكر القصة بعدها وفيها {وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة} وقال قوم صالح وهم قبل إبراهيم الخليل عليه السلام لنبيهم صالح إنما {أنت من المسحرين} أي المسحورين على المشهور, وقوله تعالى {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه} اختلف الناس في هذا المقام, فذهب بعضهم إلى أن «ما» نافية أعني التي في قوله: { وما أنزل على الملكين} قال القرطبي: ما نافية ومعطوف على قوله {وما كفر سليمان} ثم قال {ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين} وذلك أن اليهود كانوا يزعمون أنه نزل به جبريل وميكائيل فأكذبهم الله وجعل قوله {هاروت وماروت} بدلاً من الشياطين, قال: وصح ذلك إما لأن الجمع يطلق على الاثنين كما في قوله تعالى: {فإن كان له إخوة} أو لكونهما لهما أتباع أو ذكرا من بينهم لتمردهما تقدير الكلام عنده يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت. ثم قال: وهذا أولى ما حملت عليه الاَية وأصح ولا يتلفت إلى ما سواه, وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله {وما أنزل على الملكين ببابل} الاَية, يقول لم ينزل الله السحر وبإسناده عن الربيع بن أنس في قوله {وما أنزل على الملكين} قال: ما أنزل الله عليهما السحر, قال ابن جرير فتأويل الاَية على هذا {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} من السحر وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت, فيكون قوله ببابل هاروت وماروت من المؤخر الذي معناه المقدم قال: فإن قال لنا قائل: كيف وجه تقديم ذلك ؟ قيل وجه تقديمه أن يقال {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} من السحر وما كفر سليمان وما أنزل الله السحر على الملكين, ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت, فيكون معنياً بالملكين جبريل وميكائيل عليهما السلام, لأن سحرة اليهود فيما ذكرت كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود فأكذبهم الله بذلك, أخبر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر وبرأ سليمان عليه السلام مما نحلوه من السحر, وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين وأنها تعلم الناس ذلك ببابل, وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان: اسم أحدهما هاروت, واسم الاَخر ماروت, فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس ورداً عليهم. هذا لفظه بحروفه, وقد قال ابن أبي حاتم: حدثت عن عبيد الله بن موسى, أخبرنا فضيل بن مرزوق عن عطية {وما أنزل على الملكين} قال: ما أنزل الله على جبريل وميكائيلالسحر, قال ابن أبي حاتم: وأخبرنا الفضل بن شاذان, أخبرنا محمد بن عيسى, أخبرنا يعلى يعني ابن أسد, أخبرنا بكر يعني ابن مصعب, أخبرنا الحسن بن أبي جعفر: أن عبد الرحمن بن أبزى كان يقرؤها {وما أنزل على الملكين داود وسليمان} وقال أبو العالية: لم ينزل عليهما السحر, يقول: علما بالإيمان والكفر, فالسحر من الكفر, فهما ينهيان عنه أشد النهي, رواه ابن أبي حاتم, ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول, وأن ما بمعنى الذي, وأطال القول في ذلك وادعى أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما الله إلى الأرض وأذن لهما في تعليم السحر اختباراً لعباده وامتحاناً بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل, وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك , لأنهما امتثلا ما أمرا به, وهذا الذي سلكه غريب جداً, وأغرب منه قول من زعم أن هاروت وماروت قبيلان من الجن, كما زعمه ابن حزم, وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن الضحاك بن مزاحم أنه كان يقرؤها {وما أنزل على الملكين} ويقول: هما علجان من أهل بابل, ووجه أصحاب هذا القول الإنزال بمعنى الخلق لا بمعنى الايحاء كما في قوله تعالى {وما أنزل على الملكين} كما قال تعالى: {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد}, {وينزل لكم من السماء رزقاً}وفي الحديث «ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء» وكما يقال «أنزل الله الخير والشر» وحكى القرطبي عن ابن عباس وابن أبزى والحسن البصري أنهم قرؤوا {وما أنزل على الملكين} بكسر اللام, قال ابن أبزى: وهما داود وسليمان, قال القرطبي: فعلى هذا تكون ما نافية أيضاً, وذهب آخرون إلى الوقف على قوله {يعلمون الناس السحر} وما نافية, قال ابن جرير: حدثني يونس, أخبرنا ابن وهب, أخبرنا الليث عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد وسأله رجل عن قول الله {يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} فقال: الرجلان يعلمان الناس ما أنزل عليهما ويعلمان الناس ما لم ينزل عليهما, فقال القاسم: ما أبالي أيتهما كانت. ثم روى عن يونس عن أنس بن عياض عن بعض أصحابه أن القاسم قال في هذه القصة: لا أبالي أي ذلك كان, إني آمنت به, وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء, وأنهما أنزلا إلى الأرض, فكان من أمرهما ما كان, وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في مسنده رحمه الله كما سنورده إن شاء الله, وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ورد من الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما هذا, فيكون تخصيصاً لهما فلا تعارض حينئذ كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق, وفي قوله إنه كان من الملائكة لقوله تعالى {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لاَدم فسجدوا إلا إبليس أبى} إلى غير ذلك من الاَيات الدالة على ذلك, مع أن شأن هاروت وماروت على ما ذكر أخف مما وقع من إبليس لعنه الله تعالى. وقد حكاه القرطبي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار والسدي والكلبي.

ذكر الحديث الوارد في ذلك إن صح سنده ورفعه وبيان الكلام عليه
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده: أخبرنا يحيى بن بكير, حدثنا زهير بن محمد عن موسى بن جبير عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما, أنه سمع نبي الله صلى الله عليه وسلم: «إن آدم عليه السلام لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة: أي رب {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون} قالوا: ربنا نحن أطوع لك من بني آدم, قال الله تعالى للملائكة: هلموا ملكين من الملائكة حتى نهبطهما إلى الأرض فننظر كيف يعملان, قالوا: ربنا هاروت وماروت, فأهبطا إلى الأرض, ومثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر, فجاءتهما فسألاها نفسها, فقالت لا والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك, فقالا: والله لا نشرك بالله شيئاً أبداً, فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله فسألاها نفسها فقالت: لا والله حتى تقتلا هذا الصبي, فقالا: لا والله لا نقتله أبداً فذهبت ثم رجعت بقدح خمر تحمله فسألاها نفسها, فقالت: لا والله حتى تشربا هذا الخمر, فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا الصبي, فلما أفاقا قالت المرأة: والله ما تركتما شيئاً أبيتماه علي إلا قد فعلتماه حين سكرتما, فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الاَخرة, فاختارا عذاب الدنيا». وهكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن الحسن ابن سفيان عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيى بن بكير ـ به, وهذا حديث غريب من هذا الوجه, ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين إلا موسى بن جبير هذا هو الأنصاري السلمي مولاهم المديني الحذاء, وروى عن ابن عباس وأبي أمامة بن سهل بن حنيف ونافع وعبد الله بن كعب بن مالك وروى عنه ابنه عبد السلام وبكر بن مضر وزهير بن محمد وسعيد بن سلمة وعبد الله بن لهيعة وعمرو بن الحارث ويحيى بن أيوب, وروى له أبو داود وابن ماجه, وذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل, ولم يحك فيه شيئاً من هذا فهو مستور الحال, وقد تفرد به عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم, وروى له متابع من وجه آخر عن نافع, كما قال ابن مردويه: حدثنا دعلج بن أحمد حدثنا هشام بن علي بن هشام حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا سعيد بن سلمة حدثنا موسى بن سرجس عن نافع عن ابن عمر: سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: فذكره بطوله وقال أبو جعفر بن جرير رحمه الله: حدثنا القاسم, أخبرنا الحسين وهو سنيد بن داود صاحب التفسير, أخبرنا الفرج بن فضالة عن معاوية بن صالح عن نافع, قال: سافرت مع ابن عمر فلما كان من آخر الليل قال: يا نافع انظر طلعت الحمراء ؟ قلت: لا, مرتين أو ثلاثاً, ثم قلت: قد طلعت, قال: لا مرحباً بها ولا أهلاً, قلت سبحان الله نجم مسخر سامع مطيع, قال: ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الملائكة قالت يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب ؟ قال: إني ابتليتهم وعافيتكم, قالوا: لو كنا مكانهم ما عصيناك, قال: فاختاروا ملكين منكم, قال: فلم يألوا جهداً أن يختاروا فاختاروا هاروت وماروت» وهذان أيضاً غريبان جداً. وأقرب ما يكون في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار لا عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قال عبد الرزاق في تفسيره عن الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر عن كعب الأحبار قال: ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب, فقيل لهم: اختاروا منكم اثنين فاختاروا هاروت وماروت, فقال لهما إني أرسل إلى بني آدم رسلاً وليس بيني وبينكم رسول, انزلا لا تشركا بي شيئاً ولا تزنيا ولا تشربا الخمر, قال كعب: فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استكملا جميع ما نهيا عنه رواه ابن جرير من طريقين عن عبد الرزاق به, ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن عصام عن مؤمل عن سفيان الثوري به, ورواه ابن جرير أيضاً حدثني المثنى أخبرنا المعلى وهو ابن أسد أخبرنا عبد العزيز بن المختار عن موسى بن عقبة حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث عن كعب الأحبار فذكره, فهذا أصح وأثبت إلى عبد الله بن عمرمن الإسنادين المتقدمين وسالم أثبت في أبيه من مولاه نافع, فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار عن كتب بني إسرائيل, والله أعلم.

(ذكر الاَثار الواردة في ذلك عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجميعن)
قال ابن جرير: حدثني المثنى حدثنا الحجاج أخبرنا حماد عن خالد الحذاء عن عمير بن سعيد, قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: كانت الزهرة امرأة جملية من أهل فارس وإنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت فراوداها عن نفسها فأبت عليهما إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكلم به أحد يعرج به إلى السماء فعلماها فتكلمت به, فعرجت إلى السماء فمسخت كوكباً وهذا الإسناد رجاله ثقات وهو غريب جداً ـ وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا الفضل ابن شاذان أخبرنا محمد بن عيسى أخبرنا إبراهيم بن موسى أخبرنا معاوية عن خالد عن عمير بن سعيد عن علي رضي الله عنه قال هما ملكان من ملائكة السماء, يعني {وما أنزل على الملكين} روواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره بسنده عن مغيث عن مولاه جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي مرفوعاً, وهذا لا يثبت من هذا الوجه. ثم رواه من طريقين آخرين عن جابر عن أبي الطفيل عن علي رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن الله الزهرة فإنها هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت» وهذ أيضاً لا يصح وهو منكر جداً, والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثني المثنى بن إبراهيم أخبرنا الحجاج بن منهال حدثنا حماد عن علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا جميعاً: لما كثر بنو آدم وعصوا, دعت الملائكة عليهم والأرض والجبال ربنا لا تمهلهم, فأوحى الله إلى الملائكة إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم وأنزلت الشهوة والشيطان في قلوبهم ولو نزلتم لفعلتم أيضاً. قال: فحدثوا أنفسهم ان لو ابتلوا اعتصموا, فأوحى الله إليهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم, فاختاروا هاروت وماروت, فأهبطا إلى الأرض وأنزلت الزهرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس يسمونها بيذخت, قال: فوقعا بالخطيئة, فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً, فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم, فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الاَخرة فاختارا عذاب الدنيا. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي أخبرنا عبيد الله يعني ابن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بن عمرو ويونس بن خباب عن مجاهد, قال: كنت نازلاً على عبد الله بن عمر في سفر, فلما كان ذات ليلة قال لغلامه: انظر هل طلعت الحمراء لا مرحباً بها ولا أهلاً ولا حياها الله هي صاحبة الملكين, قالت الملائكة: يا رب, كيف تدع عصاة بني آدم وهم يسفكون الدم الحرام وينتهكون محارمك ويفسدون في الأرض ؟ قال إني ابتليتهم فلعل إن ابتليتكم بمثل الذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون, قالوا: لا, قال: فاختاروا من خياركم اثنين, فاختاروا هاروت وماروت, فقال لهما: إني مهبطكما إلى الأرض وعاهد إليكما أن لا تشركا ولا تزنيا ولا تخونا, فأهبطا إلى الأرض وألقى عليهما الشهوة, وأهبطت لهما الزهرة في أحسن صورة امرأة, فتعرضت لهما فراوداها عن نفسها, فقالت: إني على دين لا يصح لأحد أن يأتيني إلا من كان على مثله, قالا: وما دينك ؟ قالت المجوسية, قالا: الشرك هذا شيء لا نقر به, فمكثت عنهما ما شاء الله تعالى, ثم تعرضت لهما فراوداها عن نفسها, فقالت: ما شئتما غير أن لي زوجاً وأنا أكره أن يطلع على هذا مني فأفتضح, فإن أقررتما لي بديني وشرطتما لي أن تصعدا بي إلى السماء فعلت, فأقرا لها بدينها وأتياها فيما يريان ثم صعدا بها إلى السماء, فلما انتهيا بها إلى السماء اختطفت منهما وقطعت أجنحتهما فوقعا خائفين نادمين يبكيان وفي الأرض نبي يدعو بين الجمعتين فإذا كان يوم الجمعة أجيب فقالا: لو أتينا فلاناً فسألناه فطلب لنا التوبة, فأتياه فقال: رحمكما الله كيف يطلب التوبة أهل الأرض لأهل السماء ؟ قالا: إنا قد ابتلينا, قال ائتياني يوم الجمعة فأتياه, فقال: ما أجبت فيكما بشيء ائتياني في الجمعة الثانية فأتياه, فقال: اختارا فقد خيرتما إن اخترتما معافاة الدنيا وعذاب الاَخرة وإن أحببتما فعذاب الدنيا وأنتما يوم القيامة على حكم الله, فقال أحدهما: إن الدنيا لم يمض منه إلا القليل. وقال الاَخر: ويحك إني قد اطعتك في الأمر الأول فأطعني الاَن إن عذاباً يفنى ليس كعذاب يبقى. فقال: إننا يوم القيامة على حكم الله فأخاف أن يعذبنا, قال: لا. إني أرجو إن علم الله أنا قد اخترنا عذاب الدنيا مخافة عذاب الاَخرة أن لا يجمعها علينا, قال: فاختارا عذاب الدنيا فجعلا في بكرات من حديد في قليب مملوءة من نار عاليهما سافلهما ـ وهذ إسناد جيد إلى عبد الله بن عمر ـ وقد تقدم في رواية ابن جرير من حديث معاوية بن صالح عن نافع عنه رفعه, وهذا أثبت وأصح إسناداً ثم هو ـ والله أعلم ـ من رواية ابن عمر عن كعب كما تقدم بيانه من رواية سالم عن أبيه. وقوله: إن الزهرة نزلت في صورة امرأة حسناء, وكذا في المروي عن علي فيه غرابة جداً.
وأقرب ما ورد في ذلك ما قال ابن أبي حاتم: أخبرنا عصام بن رواد, أخبرنا آدم, أخبرنا أبو حعفر, حدثنا الربيع بن أنس عن قيس بن عباد عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: لما وقع الناس من بعد آدم عليهالسلام فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله, قالت الملائكة في السماء: يا رب هذا العالم الذي إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك قد وقعوا فميا وقعوا فيه, وركبوا الكفر, وقتل النفس, وأكل المال الحرام, والزنا والسرقة, وشرب الخمر, فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم فقيل: إنهم في غيب فلم يعذروهم, فقيل لهم: اختاروا من أفضلكم ملكين آمرهما, وأنهاهما, فاختاروا هاروت وماروت فأهبطا إلى الأرض وجعل لهما شهوات بني آدم وأمرهما الله أن يعبداه ولا يشركا به شيئاً ونهيا عن قتل النفس الحرام وأكل المال الحرام وعن الزنا والسرقة وشرب الخمر, فلبثا في الأرض زماناً يحكمان بن الناس بالحق وذلك في زمن إدريس عليه السلام, وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في سائر الكواكب, وإنهما أتيا عليها فخضعا لها في القول وأراداها على نفسها فأبت إلا أن يكون على أمرها وعلى دينها, فسألاها عن دينها, فأخرجت لهما صنماً فقالت: هذا أعبده, فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا, فذهبا فغبرا ما شاء الله, ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها ففعلت مثل ذلك, فذهبا ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها, فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم, قالت لهما: اختارا أحد الخلال الثلاث: إما ان تعبدا هذا الصنم, وإما أن تقتلا هذه النفس, وإما أن تشربا هذه الخمر, فقالا: كل هذا لا ينبغي وأهون هذا شرب الخمر فشربا الخمر فأخذت فيهما, فواقعا المرأة فخشيا أن يخبر الإنسان عنهما فقتلاه, فلما ذهب عنهما السكر وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة أرادا أن يصعدا إلى السماء فلم يستطيعا وحيل بينهما وبن ذلك, وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء, فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه فعجبوا كل العجب وعرفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية, فجعلوا بعد ذلك يستعفرون لمن في الأرض فنزل في ذلك {والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستعفرون لمن في الأرض} فقيل لهما: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الاَخرة, فقالا: أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع ويذهب وأما عذاب الاَخرة فلا انقطاع له, فاختارا عذاب الدنيا, فجعلا ببابل فهما يعذبان, وقد رواه الحاكم في مستدركه مطولاً عن أبي زكريا العنبري عن محمد بن عبد السلام عن إسحاق بن راهوية عن حكام بن سلم الرازي وكان ثقة عن أبي جعفر الرازي به, ثم قال: صحيح الإسناد لم يخرجاه, فهذا أقرب ما روي في شأن الزهرة, والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا مسلم أخبرنا القاسم بن الفضل الحذائي أخبرنا يزيد يعني الفارسي عن ابن عباس: أن أهل سماء الدينا أشرفوا على أهل الأرض فرأوهم يعملون بالمعاصي, فقالوا: يا رب أهل الأرض كانوا يعملون بالمعاصي, فقال الله: أنتم معي وهم في غيب عني, فقيل لهم: اختاروا منكم ثلاثة فاختاروا منهم ثلاثة على أن يهبطوا إلى الأرض على أن يحكموا بين أهل الأرض, وجعل فيهما شهوة الاَدميين, فأمروا أن لا يشربوا خمراً ولا يقتلوا نفساً ولا يزنوا ولا يسجدوا لوثن, فاستقال منهم واحد فأقيل, فأهبط اثنان إلى الأرض فأتتهما امرأة من أحسن الناس يقال لها: مناهية فهوياها جميعاً, ثم أتيا منزلها فاجتمعا عندها فأراداها فقالت لهما: لا حتى تشربا خمري, وتقتلا ابن جاري, وتسجدا لوثني, فقالا: لا نسجد ثم شربا من الخمر ثم قتلا ثم سجدا, فأشرف أهل السماء عليهما, وقالت لهما: أخبراني بالكلمة التي إذا قلتماها طرتما, فأخبراها فطارت, فمسخت جمرة وهي هذه الزهرة, وأما هما فأرسل إليهما لسليمان بن داود فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الاَخرة, فاختارا عذاب الدنيا فهما مناطان بين السماء والأرض, وهذا السياق فيه زيادة كثيرة وإغراب ونكارة, والله أعلم بالصواب.
وقال عبد الرزاق: قال معمر قال قتادة والزهري, عن عبيد الله بن عبد الله {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} كانا ملكين من الملائكة فأهبطا ليحكما بين الناس, وذلك أن الملائكة سخروا من حكام بني آدم فحاكمت إليهما امرأة فحافا لها ثم ذهبا يصعدان فحيل بينهما وبين ذلك, ثم خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الاَخرة فاختارا عذاب الدنيا. قال معمر: قال قتادة فكانا يعلمان الناس السحر فأخذ عليهما أن لا يعلما أحداً حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر.
وقال أسباط عن السدي أنه قال: كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم, فقيل لهما: إني أعطيت بني آدم عشراً من الشهوات فبها يعصونني, قال هاروت وماروت: ربنا لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل. فقال لهما: أنزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر فاحكما بين الناس, فنزلا ببابل ديناوند, فكانا يحكمان حتى إذا أمسيا عرجا فإذا أصبحا هبطا, فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها فأعجبهما حسنها واسمها بالعربية الزهرة, وبالنبطية بيدخت, وبالفارسية أناهيد, فقال أحدهما لصاحبه: إنها لتعجبني, قال الاَخر: قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك, فقال الاَخر: هل لك أن أذكرها لنفسها. قال: نعم, ولكن كيف لنا بعذاب الله ؟ قال الاَخر إنا لنرجو رحمة الله. فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها, فقالت: لا حتى تقضيا لي على زوجي فقضيا لها على زوجها ثم واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها فأتياها لذلك, فلما أراد الذي يواقعها قالت: ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء, وبأي كلام تنزلان منها, فأخبراها فتكلمت فصعدت, فأنساها الله تعالى ما تنزل به فثبتت مكانها وجعلها الله كوكباً, فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها وقال: هذه التي فتنت هاروت وماروت, فلما كان الليل, أرادا أن يصعدا فلم يطيقا فعرفا الهلكة, فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الاَخرة, فاختارا عذاب الدنيا, فعلقا ببابل وجعلا يكلمان الناس كلامها وهو السحر.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: أما شأن هاروت وماروت فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات, فقال لهم ربهم تعالى: اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض فاختاروا فلم يألوا هاروت وماروت, فقال لهما حين أنزلهما: أعجبتما من بني آدم من ظلمهم ومعصيتهم وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وراء وإنكما ليس بيني وبينكما رسول, فافعلا كذا وكذا ودعا كذا وكذا, فأمرهما بأمور ونهاهما, ثم نزلا على ذلك ليس أحد أطوع لله منهما فحكما فعدلا, فكانا يحكمان في النهار بين بني آدم فإذا أمسيا عرجا فكانا مع الملائكة, وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان حتى أنزلت عليهما الزهرة في أحسن صورة امرأة تخاصم فقضيا عليها, فلما قامت وجد كل واحد منهما في نفسه, فقال أحدهما لصاحبه: وجدت مثل الذي وجدت ؟ قال: نعم, فبعثا إليها أن ائتيانا نقض لك, فلما رجعت قالا: وقضيا لها فأتتهما فكشفا لها عن عورتيهما, وإنما كانت سوآتهما في أنفسهما ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذاتها, فلما بلغا ذلك واستحلا افتتنا, فطارت الزهرة فرجعت حيث كانت, فلما أمسيا عرجا فز
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://domoo3.own0.com/
RoMa
Admin
RoMa


عدد المساهمات : 1980
نقاط : 6051
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 04/09/2011
العمر : 29
الموقع : دموع عيون حبيبى

تفسير سورة البقرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة   تفسير سورة البقرة I_icon_minitimeالأحد أكتوبر 30, 2011 11:19 pm

وقد ورد في ذلك أثر غريب وسياق عجيب في ذلك, أحببنا أن ننبه عليه, قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى: أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا ابن وهب أخبرنا ابن أبي الزناد حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حداثة ذلك تسأله عن أشياء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به, وقالت عائشة رضي الله عنها لعروة: يا ابن أختي, فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها, فكانت تبكي حتى إني لأرحمها, وتقول: إني أخاف أن أكون قد هلكت, كان لي زوج فغاب عني فدخلت عليّ عجوز فشكوت ذلك إليها, فقالت: إن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك, فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الاَخر, فلم يكن شي حتى وقفنا ببابل وإذا برجلين معلقين بأرجلهما فقالا: ما جاء بك ؟ قلت: نتعلم السحر, فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري فارجعي, فأبيت وقلت: لا, قالا: فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه, فذهبت ففزعت ولم أفعل فرجعت إليهما فقالا: أفعلت ؟ فقلت: نعم, فقالا: هل رأيت شيئاً ؟ فقلت: لم أر شيئاً, فقالا لم تفعلي ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فأرببت وأبيت, فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت فاقشعررت وخفت, ثم رجعت إليهما وقلت: قد فعلت, فقالا: فما رأيت ؟ قلت: لم أر شيئاً, فقالا: كذبت لم تفعلي ارجعي إلى بلادك, ولا تكفري فإنك على رأس أمرك فأرببت وأبيت, فقالا: اذهبي إلى التنور فبولي فيه, فذهبت إليه فبلت فيه فرأيت فارساً مقنعاً بحديد خرج مني فذهب في السماء وغاب حتى ما أراه, فجئتهما فقلت: قد فعلت, فقالا: فما رأيت ؟ قلت: رأيت فارساً مقنعاً خرج مني فذهب في السماء وغاب حتى ما أراه, فقالا: صدقت ذلك إيمانك خرج منك اذهبي, فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئاً وما قالا لي شيئاً, فقالت: بلى لم تريدي شيئاً إلا كان, خذي هذا القمح فابذري, فبذرت وقلت: اطلعي فأطلعت, وقلت: احقلي فأحقلت, ثم قلت: افركي فأفركت, ثم قلت: أيبسي فأيبست, ثم قلت: اطحني فأطحنت, ثم قلت: اخبزي فأخبزت, فلما رأيت أني لا أريد شيئاً إلا كان سقط في يدي, وندمت, والله يا أم المؤمنين ما فعلت شيئاً ولا أفعله أبداً, ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان به مطولاً كما تقدم وزاد بعد قولها ولا أفعلها أبداً, فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حداثة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يومئذ متوافرون, فما دروا ما يقولون لها, وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلمه إلا أنه قد قال لها ابن عباس أو بعض من كان عنده: لو كان أبواك حيين أو أحدهما. قال هشام: فلو جاءتنا أفتيناها بالضمان. قال ابن أبي الزناد: وكان هشام يقول: عنهم كانوا من أهل الورع والخشية من الله ثم يقول هشام: لو جاءتنا مثلها اليوم لوجدت نوكى أهل حمق وتكلف بغير علم, فهذا إسناد جيد إلى عائشة رضي الله عنها.

وقد استدل بهذا الأثر من ذهب إلى ان الساحر له تمكن في قلب الأعيان لأن هذه المرأة بذرت واستغلت في الحال. وقال آخرون: بل ليس له قدرة إلا على التخييل كما قال تعالى {سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم} وقال تعالى: {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} استدل به على أن بابل المذكورة في القرآن هي بابل العراق لا بابل ديناوند كما قاله السدي وغيره, ثم الدليل على أنها بابل العراق ما قال ابن أبي حاتم: أخبرنا علي بن الحسين أخبرنا أحمد بن صالح حدثني ابن وهب حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مر ببابل وهو يسير, فجاء المؤذن يؤذنه بصلاة العصر, فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة, فملا فرغ قال: إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي بأرض المقبرة ونهاني ان أصلي ببابل فإنها ملعونة وقال أبو داود: أخبرنا سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري أن علياً مرّ ببابل وهو يسير, فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر, فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة, فلما فرغ قال: إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة, ونهاني أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة. حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة عن حجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري عن علي بمعنى حديث سليمان بن داود, قال: فلما خرج منها برز, وهذا الحديث حسن عند الإمام أبي داود لأنه رواه وسكت عنه ففيه من الفقه كراهية الصلاة بأرض بابل كما تكره بديار ثمود الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدخول إلى منازلهم إلا أن يكونوا باكين. قال أصحاب الهيئة: وبعد ما بين بابل وهي من إقليم العراق عن البحر الميحط الغربي, ويقال له أوقيانوس سبعون درجة ويسمون هذا طولاً, وأما عرضها وهو بعد ما بينها وبن وسط الأرض من ناحية الجنوب, وهو المسامت لخط الاستواء اثنان وثلاثون درجة, والله أعلم.

وقوله تعالى: {وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر} قال أبو جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس عن قيس بن عباد عن ابن عباس قال: فإذا أتاهما الاَتي يريد السحر نهياه أشد النهي وقالا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر, وذلك أنهما علما الخير والشر والكفر والإيمان, فعرفا أن السحر من الكفر, قال: فإذا أبى عليهما أمراه يأتي مكان كذا وكذا, فإذا أتاه عاين الشيطان فعلمه, فإذا تعلمه خرج منه النور, فنظر إليه ساطعاً في السماء فيقول: يا حسرتاه, يا ويله ماذا صنع, وعن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الاَية: نعم انزل الملكان بالسحر ليعلما الناس البلاء الذي أراد الله أن يبتلي به الناس, فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلما أحداً حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفروا, رواه ابن أبي حاتم, وقال قتادة: كان أخذ عليهما ان لا يعلما أحداً حتى يقولا: إنما نحن فتنة أي بلاء ابتلينا به فلا تكفر. وقال السدي: إذا أتاهما إنسان يريد السحر وعظاه وقالا له: لا تكفر إنما نحن فتنة, فإذا أبى قالا له: ائت هذا الرماد فبل عليه, فإذا بال عليه خرج منه نور فسطع حتى يدخل السماء وذلك الإيمان, وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه, وكل شيء, وذلك غضب الله, فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر, فذلك قول الله تعالى: {وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر} الاَية, وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج في هذه الاَية: لا يجترىء على السحر إلا كافر, وأما الفتنة فهي المحنة والاختيار, ومنه قول الشاعر:

وقد فتن الناس في دينهموخلى ابن عفان شراً طويلاً



وكذلك قوله تعالى إخباراً عن موسى عليه السلام حيث قال {إن هي إلا فتنتك} أي ابتلاؤك واختبارك وامتحانك {تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء} وقد استدل بعضهم بهذه الاَية على تكفير من تعلم السحر, واستشهد له بالحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار, حدثنا محد بن المثنى, أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش, عن إبراهيم عن همام عن عبد الله قال: «من أتى كاهناً أو ساحراً فصدقه بما يقول, فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» وهذا إسناد صحيح وله شواهد أخر, وقوله تعالى: {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه} أي فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر وما يتصرفون به فيما يتصرفون من الأفاعيل المذمومة ما إنهم ليفرقون به بين الزوجين, مع ما بينهما من الخلطة والائتلاف, وهذا من صنيع الشياطين, كما رواه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن أبي سفيان عن طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس, فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة, ويجيء أحدهم فيقول: ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا, فيقول إبليس: لا والله ما صنعت شيئاً! ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال: فيقر به ويدنيه ويلتزمه ويقول: نعم أنت» وسبب التفريق بين الزوجين بالسحر ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الاَخر من سوء منظر أو خلق أو نحو ذلك أو عقد أو بغضه أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة, والمرء عبارة عن الرجل وتأنيثه امرأة ويثنى كل منهما ولا يجمعان والله اعلم.

وقوله تعالى {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} قال سفيان الثوري: إلا بقضاء الله, وقال محمد بن إسحاق: إلا بتخلية الله بينه وبين ما أراد, وقال الحسن البصري {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} قال: نعم, من شاء الله سلطهم عليه, ومن لم يشأ الله لم يسلط ولا يستطيعون من أحد إلا بإذن الله, كما قال الله تعالى. وفي رواية عن الحسن أنه قال: لا يضر هذا السحر إلا من دخل فيه, وقوله تعالى: {ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم} أي يضرهم في دينهم وليس له نفع يوازي ضرره {ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الاَخرة من خلاق} أي ولقد علم اليهود الذين استبدلوا بالسحر عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لمن فعل فعلهم, ذلك أنه ما له في الاَخرة من خلاق, قال ابن عباس وكمجاهد والسدي: من نصيب, وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: ما له في الاَخرة من جهة عند الله, وقال عبد الرزاق, وقال الحسن: ليس له دين, وقال سعد عن قتادة {ما له في الاَخرة من خلاق} قال: ولقد علم أهل الكتاب فيم عهد الله إليهم أن الساحر لا خلاق له في الاَخرة, وقوله تعالى {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون * ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون} يقول تعالى: {ولبئس} البديل ما استبدلوا به من السحر عوضاً عن الإيمان ومتابعة الرسول لو كان لهم علم بما وعظوا به {ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير} أي ولو أنهم آمنوا بالله ورسله واتقوا المحارم لكان مثوبة الله على ذلك خيراً لهم مما استخاروا لأنفسهم ورضوا به كما قال تعالى: {وقال الذين أوتوا العلم: ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون}.

وقد استدل بقوله {ولو أنهم آمنوا واتقوا} من ذهب إلى تكفير الساحر, كما هو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل وطائفة من السلف, وقيل: بل لا يكفر, ولكن حده ضرب عنقه, لما رواه الشافعي وأحمد بن حنبل, قالا: أخبرنا سفيان, هو ابن عيينة عن عمرو بن دينار, أنه سمع بجالة بن عبدة يقول: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن اقتلوا كل ساحر وساحرة, قال: فقتلنا ثلاث سواحر وقد أخرجه البخاري في صحيحه أيضاً, وهكذا صح أن حفصة أم المؤمنين سحرتها جارية لها, فأمرت بها, فقتلت, قال الإمام أحمد بن حنبل: صح عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قتل الساحر. وروى الترمذي من حديث اسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب الأزدي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حد الساحر ضربه بالسيف» ثم قال: لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه, وإسماعيل بن مسلم يضعف في الحديث, والصحيح عن الحسن عن جندب موقوفاً قلت. قد رواه الطبراني من وجه آخر عن الحسن عن جندب مرفوعاً. والله أعلم. وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عقبة: كان عنده ساحر يلعب بين يديه فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه, فقال الناس: سبحان الله يحيي الموتى, ورآه رجل من صالحي المهاجرين , فلما كان الغد جاء مشتملاً على سيفه وذهب يلعب لعبه ذلك, فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر, وقال: إن كان صادقاً فليحي نفسه, وتلا قوله تعالى: {أتأتون السحر وأنتم تبصرون}, فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك, فسجنه ثم أطلقه, والله أعلم. وقال الإمام أبو بكر الخلال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل, حدثني أبي أخبرنا يحيى بن سعيد, حدثني أبو إسحاق عن حارثة قال: كان عند بعض الأمراء رجل يلعب فجاء جندي مشتملاً على سيفه فقتله, قال: أراه كان ساحراً, وحمل الشافعي رحمه الله قصة عمر وحفصة على سحر يكون شركاً والله أعلم.

(فصل) حكى أبو عبد الله الرازي في تفسيره عن المعتزلة أنهم أنكروا وجود السحر, قال: وربما كفروا من اعتقد وجوده, قال: وأما أهل السنة فقد جوزوا أن يقدر الساحر أن يطير في الهواء ويقلب الإنسان حماراً, والحمار إنساناً إلا أنهم قالوا: إن الله يخلق الأشياء عندما يقول الساحر تلك الرقى والكلمات المعينة فأما أن يكون المؤثر في ذلك هو الفلك والنجوم, فلا, خلافاً للفلاسفة والمنجمين والصابئة, ثم استدل على وقوع السحر وأنه بخلق الله تعالى بقوله تعالى: {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} ومن الأخبار بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر, وأن السحر عمل فيه وبقصة تلك المرأة مع عائشة رضي الله عنها وما ذكرت تلك المرأة من إتيانها بابل وتعلمها السحر قال: وبما يذكر في هذا الباب من الحكايات الكثير, ثم قال بعد هذا.

(المسألة الخامسة) في أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور ـ اتفق المحققون على ذلك لأن العلم لذاته شريف, وأيضاً لعموم قوله تعالى: {قل هل يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون} ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة والعلم بكون المعجز معجزاً واجب, وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجباً, وما يكون واجباً, فكيف يكون حراماً وقبيحاً ؟ هذا لفظه بحروفه في هذه المسألة, وهذا الكلام فيه نظر من وجوه أحدها قوله: العلم بالسحر ليس بقبيح عقلاً, فمخالفوه من المعتزلة يمنعون هذا, وإن عنى أنه ليس بقبيح شرعاً, ففي هذه الاَية الكريمة تبشيع لتعلم السحر, وفي الصحيح «من أتى عرافاً أو كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد», وفي السنن «من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر» وقوله: ولا محظور, اتفق المحققون على ذلك, كيف لا يكون محظوراً مع ما ذكرناه من الاَية والحديث واتفاق المحققين يقتضي أن يكون قد نص إلى هذه المسألة أئمة العلماء أوأكثرهم وأين نصوصهم على ذلك ؟ ثم إدخاله في علم السحر في عموم قوله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} فيه نظر, لأن هذه الاَية إنما دلت على مدح العالمين العلم الشرعي ولم قلت إن هذا منه ثم ترقية إلى وجوب تعلمه إنه لا يحصل العلم بالمعجز إِلا به ضعيف بل فاسد, لأن أعظم معجزات رسولنا عليه الصلاة والسلام هي القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. ثم إِن العلم بأنه معجزة لا يتوقف على علم السحر أصلاً, ثم من المعلوم بالضرورة أن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم, كانوا يعلمون المعجز, ويفرقون بينه وبين غيره, ولم يكونوا يعلمون السحر ولا تعلموه ولا علموه, والله أعلم.

ثم ذكر أبو عبد الله الرازي, أن أنواع السحر ثمانية (الأول) سحر الكذابين والكشدانيين, الذين كانوا يعبدون الكواكب السبعة المتحيرة, وهي السيارة, وكانوا يعتقدون أنها مدبرة العالم, وأنها تأتي بالخير والشر, وهم الذين بعث الله إليهم إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم مبطلاً لمقالتهم ورداً لمذهبهم, وقد استقصى في (كتاب السر المكتوم, في مخاطبة الشمس والنجوم) المنسوب إليه, كما ذكرها القاضي ابن خلكان وغيره, ويقال أنه تاب منه, وقيل بل صنفه على وجه إظهار الفضيلة, لا على سبيل الاعتقاد, وهذا هو المظنون به إِلا أنه ذكر فيه طريقهم في مخاطبة كل من هذه الكواكب السبعة وكيفية ما يفعلون وما يلبسونه وما يتمسكون به.

قال (والنوع الثاني) سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية, ثم استدل على أن الوهم له تأثير بأن الإنسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه الأرض, ولا يمكنه المشي عليه إِذا كان ممدوداً على نهر أو نحوه, قال: وكما أجمعت الأطباء على نهي المرعوف عن النظر إِلى الأشياء الحمر, والمصروع إلى الأشياء القوية اللمعان أو الدوران, وما ذلك إلا لأن النفوس خلقت مطيعة للأوهام. قال: وقد اتفق العقلاء على أن الإصابة بالعين حق ـ وله أن يستدل على ذلك بما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين» ـ قال فإذا: عرفت هذا فنقول النفس التي تفعل هذه الأفاعيل قد تكون قوية جداً فتستغني في هذه الأفاعيل عن الاستعانه بالاَلات والأدوات, وقد تكون ضعيفة فتحتاج إِلى الاستعانة بهذه الاَلات, وتحقيقه أن النفس إِذا كانت متعلية عن البدن شديدة الانجذاب إلى عالم السماوات صارت كأنها روح من الأوراح السماوية, فكانت قوية على التأثير في مواد هذا العالم, وإِذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه الذات البدنية, فحينئذ لا يكون لها تأثير البتة إِلا في هذا البدن, ثم أرشد إلى مداواة هذا الداء بتقليل الغذاء, والانقطاع عن الناس والرياء {قلت} وهذا الذي يشير إليه هو التصرف بالحال, وهو على قسمين, تارة تكون حالاً صحيحة شرعية يتصرف بها فيما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, ويترك ما نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, فهذه الأحوال مواهب من الله تعالى وكرامات للصالحين من هذه الأمة ولا يسمى هذا سحراً في الشرع. وتارة تكون الحال فاسدة لا يمتثل صاحبها ما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, ولا يتصرف بها في ذلك, فهذه حال الأشقياء المخالفين للشريعة ولا يدل إعطاء الله إِياهم هذه الأحوال على محبته لهم, كما أن الدجال له من الخوارق للعادات ما دلت عليه الأحاديث الكثيرة مع أنه مذموم شرعاً لعنه الله, وكذلك من شابهه من مخالفي الشريعة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام, وبسط هذا يطول جداً وليس هذا موضعه.

قال (والنوع الثالث) من السحر, الاستعانة بالأرواح الأرضية وهم الجن خلافاً للفلاسفة والمعتزلة وهم على قسمين: مؤمنون, وكفار وهم الشياطين, وقال: واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية لما بينها من المناسبة والقرب, ثم إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بها أعمال سهلة قليلة من الرقي والدخن والتجريد, وهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل التسخير.

قال (النوع الرابع) من السحر التخيلات والأخذ بالعيون والشعبذة, ومبناه على أن البصر قد يخطىء ويشتغل بالشيء المعين دون غيره ألا ترى ذا الشعبذة الحاذق يظهر عمل شيء يذهل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه حتى إِذا استفرغهم الشغل بذلك الشيء بالتحديث ونحوه عمل شيئاً آخر عملاً بسرعة شديدة, وحينئذ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه فيتعجبون منه جداً ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إِلى ضد ما يريد أن يعلمه, ولم تتحرك النفوس والأوهام إِلى غير ما يريد إخراجه, لفطن الناظرون لكل ما يفعله (قال) وكلما كانت الأحوال تفيد حسن البصر نوعاً من أنواع الخلل أشد, كان العمل أحسن مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جداً أو مظلم فلا تقف القوة الناظرة على أحوالها والحالة هذه.

(قلت) وقد قال بعض المفسرين: إِن سحر السحرة بين يدي فرعون إِنما كان من باب الشعبذة ولهذا قال تعالى: {فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم} وقال تعالى: {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} قالوا: ولم تكن تسعى في نفس الأمر, والله أعلم.

(النوع الخامس من السحر): الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب آلات مركبة على النسب الهندسية كفارس على فرس في يده بوق كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق من غير أن يمسه أحد ـ ومنها الصور التي تصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينهما وبين الإنسان حتى يصورونها ضاحكة وباكية, إِلى أن قال: فهذه الوجوه من لطيف أمور التخاييل, قال: وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل (قلت) يعني ما قاله بعض المفسرين: إنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي فحشوها زئبقاً فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها قال الرازي: ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات, ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال بالاَلات الخفيفة قال: وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من السحر لأن لها أسباباً معلومة يقينية من اطلع عليها قدر عليها. (قلت) ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار كقضية قمامة الكنيسة التي لهم ببلد القدس, وما يحتالون به من إدخال النار خفية إلى الكنيسة وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على العوام منهم. وأما الخواص فهم معترفون بذلك, ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم فيرون ذلك سائغاً لهم. وفيهم شبهة على الجهلة الأغبياء من متعبدي الكرامية الذين يرون جواز وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب فيدخلون في عداد من قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: «من كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار» وقوله: «حدثوا عني ولا تكذبوا عليّ فإنه من يكذب عليّ يلج النار» ثم ذكر ههنا حكاية عن بعض الرهبان وهو أنه سمع صوت طائر حزين الصوت ضعيف الحركة فإذا سمعته الطيور ترق له فتذهب فتلقي في وكره من ثمر الزيتون ليتبلغ به, فعمد هذا الراهب إِلى صنعة طائر على شكله وتوصل إِلى أن جعله أجوف فإذا دخلته الريح يسمع منه صوت كصوت الطائر وانقطع في صومعة ابتناها وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم وعلق على ذلك الطائر في مكان منها فإِذا كان زمان الزيتون فتح باباً من ناحيته فيدخل الريح إلى داخل هذه الصورة, فيسمع صوتها كل طائر في شكله أيضاً, فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئاً كثيراً, فلا ترى في النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة ولا يدرون ما سببه, ففتنهم بذلك وأوهم أن هذا من كرامات صاحب هذا القبر, عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.

(قال الرازي: النوع السادس من السحر) الاستعانة بخواص الأدوية يعني في هذا الأطعمة والدهانات قال: واعلم أنه لا سبيل إلى إنكار الخواص فإن تأثير المغناطيس مشاهد. (قلت) يدخل في هذا القبيل كثير ممن يدعي الفقر ويتحيل على جهلة الناس بهذه الخواص مدعياً أنها أحوال له من مخالطة النيران ومسك الحيات إلى غير ذلك من المحالات.

قال (النوع السابع من السحر) التعليق للقلب, وهو أن يدعي الساحر أنه عرف الاسم الأعظم وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور فإِذا اتفق أن يكون السامع لذلك ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق وتعلق قلبه بذلك وحصل في نفسه نوع من الرعب والمخافة فإذا ما حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة فحينئذ يتمكن الساحر أن يفعل ما يشاء. (قلت) هذا النمط يقال له التنبلة وإِنما يروج على ضعفاء العقول من بني آدم.وفي علم الفراسة ما يرشد إلى معرفة العقل من ناقصه فإذا كان المتنبل حاذقاً في علم الفراسة عرف من ينقاد له من الناس من غيره.

قال (النوع الثامن من السحر) السعي بالنميمة والتقريب من وجوه خفيفة لطيفة وذلك شائع في الناس (قلت) النميمة على قسمين تارة تكون على وجه التحريش بين الناس وتفريق قلوب المؤمنين فهذا حرام متفق عليه, فأما إن كانت على وجه الإصلاح بين الناس وائتلاف كلمة المسلمين كما جاء في الحديث «ليس بالكذاب من ينم خيراً» أو يكون على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة, فهذا أمر مطلوب كما جاء في الحديث «الحرب خدعة», وكما فعل نعيم بن مسعود في تفريق كلمة الأحزاب وبني قريظة: جاء إلى هؤلاء فنمى إليهم عن هؤلاء كلاماً, ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئاً آخر, ثم لأم بين ذلك فتناكرت النفوس وافترقت, وإنما يحذو على مثل هذا الذكاء ذو البصيرة النافذة والله المستعان.

ثم قال الرازي: فهذه جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه, (قلت) وإِنما أدخل كثيراً من هذه الأنواع المذكورة في فن السحر للطافة مداركها لأن السحر في اللغة عبارة عما لطف وخفي بسببه, ولهذا جاء في الحديث «إن من البيان لسحراً», وسمي السحور لكونه يقع خفياً آخر الليل, والسحر: الرئة, وهي محل الغذاء وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه, كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة: انتفخ سحره أي انتفخت رئته من الخوف. وقالت عائشة رضي الله عنها: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري, وقال تعالى: {سحروا أعين الناس} أي أخفوا عنهم علمهم, والله أعلم.

وقال أبو عبد الله القرطبي: وعندنا أن السحر حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما يشاء خلافاً للمعتزلة وأبي إسحاق الإسفرايني من الشافعية حيث قالوا: إنه تمويه وتخييل قال ومن السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة, والشعوذي البريد لخفة سيره, قال ابن فارس: وليست هذه الكلمة من كلام أهل البادية, قال القرطبي: ومنه ما يكون كلاماً يحفظ ورقى من أسماء الله تعالى وقد يكون من عهود الشياطين ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك, قال: وقوله عليه السلام: «إن من البيان لسحراً» يحتمل أن يكون مدحاً كما تقول طائفة, ويحتمل أن يكون ذماً للبلاغة قال: وهذا أصح, قال لأنها تصوب الباطل حتى توهم السامع أنه حق كما قال عليه الصلاة والسلام: «فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له» الحديث.

(فصل) وقد ذكر الوزير أبو المظفر يحيى بن محمد ابن هبيرة رحمه الله في كتابه(الإشراف على مذاهب الأشراف) باباً في السحر فقال: أجمعوا على أن السحر له حقيقة إلا أبا حنيفة فإنه قال: لا حقيقة له عنده واختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله, فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد يكفر بذلك. ومن أصحاب أبي حنيفة من قال إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فلا يكفر ومن تعلمه معتقداً جوازه أو أنه ينفعه كفر, وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر. وقال الشافعي رحمه الله: إذا تعلم السحر قلنا له صف لنا سحرك فإِن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر, وإن كان لايوجب الكفر فإِن اعتقد إباحته فهو كافر, قال ابن هبيرة: وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله ؟ فقال مالك وأحمد نعم, وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا فأما إن قتل بسحره إنساناً فإنه يقتل عند مالك والشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة: يقتل حتى يتكرر منه ذلك أو يقر بذلك في حق شخص معين, وإذا قتل فإِنه يقتل حداً عندهم إلا الشافعي فإِنه قال: يقتل والحالة هذه قصاصاً قال: وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته ؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهم: لا تقبل, وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى تقبل, وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل الساحر المسلم, وقال مالك وأحمد والشافعي: لايقتل يعني لقصة لبيد بن الأعصم واختلفوا في المسلمة الساحرة فعند أبي حنيفة أنها لا تقتل ولكن تحبس, وقال الثلاثة حكمها حكم الرجل, والله أعلم. وقال أبو بكر الخلال: أخبرنا أبو بكر المروزي قال: قرأ على أبي عبد الله ـ يعني أحمد بن حنبل ـ عمر ابن هارون أخبرنا يونس عن الزهري: قال يقتل ساحر المسلمين ولا يقتل ساحر المشركين لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها. وقد نقل القرطبي عن مالك رحمه الله, أنه قال في الذمي يقتل إن قتل سحره, وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر: إحداهما أنه يستتاب فإِن أسلم وإِلا قتل, والثانية أنه يقتل وإن أسلم, وأما الساحر المسلم فإِن تضمن سحره كفراً كفر عند الأئمة الأربعة وغيرهم لقوله تعالى: {وما يعلمان من أحد حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر}. لكن قال مالك إذا ظهر عليه لم تقبل توبته لأنه كالزنديق فإِن تاب قبل أن يظهر عليه وجاءنا تائباً قبلناه, فإن قتل سحره قتل قال الشافعي: فإن قال لم أتعمد القتل فهو مخطىء تجب عليه الدية.

(مسألة) وهل يسئل الساحر حلاً لسحره فأجاز سعيد بن المسيب فيما نقله عنه البخاري, وقال عامر الشعبي: لا بأس بالنشرة وكره ذلك الحسن البصري, وفي الصحيح عن عائشة أنها قالت: يارسول الله هلا تنشرت, فقال: «أما الله فقد شفاني وخشيت أن أفتح على الناس شراً» وحكى القرطبي عن وهب: أنه قال يؤخذ سبع ورقات من سدر فتدق بين حجرين ثم تضرب بالماء ويقرأ عليها آية الكرسي ويشرب منها المسحور ثلاث حسوات ثم يغتسل بباقيه فإِنه يذهب ما به, وهو جيد للرجل الذي يؤخذ عن امرأته (قلت) أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل الله على رسوله في ذهاب ذلك وهما المعوذتان, وفي الحديث «لم يتعوذ المتعوذ بمثلهما» وكذلك قراءة آية الكرسي فإنها مطردة للشياطين.



** يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انْظُرْنَا وَاسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ * مّا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْكُمْ مّنْ خَيْرٍ مّن رّبّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقامهم وفعالهم, وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص, عليهم لعائن الله فإذا أرادوا أن يقولوا اسمع لنا يقولون راعنا ويورون بالرعونة كما قال تعالى: {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا لياً بألسنتهم وطعناً في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيراً لهم وأقوم, ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً}, وكذلك جاءت الأحاديث بالأخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون السام عليكم, والسام هو الموت, ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بـ «وعليكم», وإِنما يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا, والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولاً وفعلاً, فقال {ياأيها الذين آمنوا لاتقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم}. وقال الإمام أحمد: أخبرنا أبو النضر أخبرنا عبد الرحمن بن ثابت أخبرنا حسان بن عطية, عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر رضي الله عنهما, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له, وجعل رزقي تحت ظل رمحي, وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم». وروى أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة عن أبي شيبة عن أبي النضير هاشم أخبرنا ابن القاسم به «من تشبه بقوم فهو منهم» ففيه دلالة على: النهي الشديد والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم ولباسهم وأعيادهم وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نقر عليها. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا نعيم بن حماد أخبرنا عبد الله بن المبارك أخبرنا مسعر عن معن وعون أو أحدهما أن رجلاً أتى عبد الله بن مسعود فقال اعهد إلي, فقال: إذا سمعت الله يقول: {ياأيها الذين آمنوا} فأرعها سمعك فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه. وقال الأعمش عن خيثمة قال ما تقرؤون في القرآن {ياأيها الذين آمنوا} فإِنه في التوراة ياأيها المساكين. وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس {راعنا} أي أرعنا سمعك. وقال الضحاك: عن ابن عباس {ياأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا} قال: كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: أرعنا سمعك وإنما راعنا كقولك عاطنا. وقال ابن أبي حاتم وروي عن أبي العالية وأبي مالك والربيع بن أنس, وعطية العوافي وقتادة نحو ذلك, وقال مجاهد: {لا تقولوا راعنا} لا تقولوا خلافاً, وفي رواية لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك. وقال عطاء لا تقولوا {راعنا}, كانت لغة تقولها الأنصار, فنهى الله عنها, وقال الحسن: {لا تقولوا راعنا}, قال الراعن من القول السخري منه, نهاهم الله أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم, وما يدعوهم إليه من الإسلام. وكذا روي عن ابن جريج, أنه قال مثله, وقال أبو صخر: {لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا} قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين, فيقول أرعنا سمعك, فأعظم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقال ذلك له. وقال السدي: كان رجل من اليهود من بني قينقاع يدعى رفاعة بن زيد يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فإِذا لقيه فكلمه قال: أرعني سمعك واسمع غير مسمع, وكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تفخم بهذا, فكان ناس منهم يقولون: اسمع غير مسمع غير صاغر, وهي كالتي في سورة النساء, فتقدم الله إلى المؤمنين أن لا يقولوا راعنا وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بنحو من هذا. قال ابن جرير: والصواب من القول في ذلك لنبيه صلى الله عليه وسلم, نظير الذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم راعنا. لأنها كلمة كرهها الله تعالى أن يقولها لنبيه صلى الله عليه وسلم, نظير الذي ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقولوا للعنب الكرم ولكن قولوا الحبلة ولا تقولوا عبدي ولكن قولوا فتاي» وما أشبه ذلك. وقوله تعالى: {مايود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم} يبين بذلك تعالى شدة عداوة الكافرين من أهل الكتاب والمشركين, الذين حذر الله تعالى من مشابهتهم للمؤمنين, ليقطع المودة بينهم وبينهم, ونبه تعالى على ما أنعم به على المؤمنين من الشرع التام الكامل الذي شرعه لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم, حيث يقول تعالى: {والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم}.





** مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ

قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما {ما ننسخ من آية} ما نبدل من آية, وقال ابن جريج عن مجاهد {ما ننسخ من آية} أي ما نمحو من آية, وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد {ما ننسخ من آية} قال نثبت خطها ونبدل حكمها, حدث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم. وقال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي العالية ومحمد بن كعب القرظي نحو ذلك, وقال الضحاك {ما ننسخ من آية} ما ننسك, وقال عطاء أما {ما ننسخ}, فما نترك من القرآن. وقال ابن أبي حاتم: يعني ترك فلم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم. وقال السدي {ما ننسخ من آية} نسخها قبضها وقال ابن أبي حاتم: يعني قبضها ورفعها, مثل قوله «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة», وقوله «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً» وقال ابن جرير: {ما ننسخ من آية}, ما ننقل من حكم آية إلى غيره, فنبدله ونغيره, وذلك أن نحول الحلال حراماً, والحرام حلالاً, والمباح محظوراً, والمحظور مباحاً, ولا يكون ذلك, إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة, فأماالأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ, وأصل النسخ من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها, فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارة إلى غيرها وسواء نسخ حكمها أو خطها, إذ هي كلتا حالتيها منسوخة. وأما علماء الأصول, فاختلفت عباراتهم في حد النسخ والأمر في ذلك قريب, لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء ولحظ بعضهم أن رفع الحكم بدليل شرعي متأخر. فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل وعكسه والنسخ لا إلى بدله, وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوطة, في أصول الفقه. وقال الطبراني: أخبرنا أبو سنبل عبيد الله بن عبد الرحمن بن واقد, أخبرنا أبي أخبرنا العباس بن الفضل, عن سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكانا يقرآن بها, فقاما ذات ليلة يصليان, فلم يقدرا منها على حرف, فأصبحا غاديين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فذكرا ذلك له, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها مما نسخ وأنسي, فالهوا عنها, فكان الزهري يقرؤها: {ما ننسخ من آية أو ننسها}, بضم النون الخفيفة, سليمان بن الأرقم ضعيف. وقد روى أبو بكر بن الأنباري عن أبيه عن نصر بن داود عن أبي عبيد الله عن عبد الله بن صالح عن الليث عن يونس وعقيل عن ابن شهاب عن أمامة بن سهل بن حنيف, مثله مرفوعاً, ذكره القرطبي, وقوله تعالى: {أو ننسها}, فقرىء على وجهين, ننسأها وننسها, فأما من قرأها بفتح النون والهمزة بعد السين فمعناه نؤخرها. قال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباس, {ما ننسخ من آية أو ننسأها}, يقول ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها, وقال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود: أو ننسأها, نثبت خطها ونبدل حكمها, وقال عبد بن عمير ومجاهد وعطاء أو ننسأها, نؤخرها ونرجئها. وقال عطية العوفي: أو ننسأها, نؤخرها فلا ننسخها, وقال السدي: مثله أيضاً وكذا الربيع بن أنس, وقال الضحاك: {ما ننسخ من آية أو ننسأها}, يعني الناسخ والمنسوخ. وقال أبو العالية: {ما ننسخ من آية أو ننسأها} نؤخرها عندنا, وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا عبيد الله بن إسماعيل البغدادي, أخبرنا خلف, أخبرنا الخفاف, عن إسماعيل يعني ابن أسلم, عن حبيب بن أبي ثابت, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خطبنا عمر رضي الله عنه, فقال: يقول الله عز وجل: {ما ننسخ من آية أو ننسأها}, أي نؤخرها, وأما على قراءة {أو ننسها}, فقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {ما ننسخ من آية أو ننسها}, قال كان الله عز وجل: ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما يشاء, وينسخ ما يشاء.

وقال ابن جرير: أخبرنا سواد بن عبد الله, أخبرنا خالد بن الحارث, أخبرنا عوف, عن الحسن أنه قال: في قوله: {أو ننسها} قال: إِن نبيكم صلى الله عليه وسلم, قرأ علينا قرآناً ثم نسيه, وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا ابن نفيل, أخبرنا محمد بن الزبير الحراني, عن الحجاج يعني الجزري عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم, الوحي بالليل وينساه بالنهار, فأنزل الله عز وجل: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها}, قال ابن أبي حاتم: قال لي أبو جعفر بن نفيل, ليس هو الحجاج بن أرطاة هو شيخ لنا جزري, وقال عبيد بن عمير: {أو ننسها} نرفعها من عندكم, وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم, أخبرنا هشيم, عن يعلى بن عطاء عن القاسم بن ربيعة, قال سمعت سعد بن أبي وقاص يقرأ {ما ننسخ من آية أو ننسها} قال: قلت له فإن سعيد بن المسيب يقرأ {أو ننسها} قال: قال سعد: إن القرآن, لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب, قال: قال الله جل ثناؤه: {سنقرئك فلا تنسى} {واذكر ربك إذا نسيت}, وكذا رواه عبد الرزاق عن هشيم, وأخرجه الحاكم في مستدركه, من حديث أبي حاتم الرازي, عن آدم عن شعبة عن يعلى بن عطاء به, وقال على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قال ابن أبي حاتم وروى عن محمد بن كعب وقتادة وعكرمة نحو قول سعيد. وقال الإمام أحمد: أخبرنا يحيى أخبرنا سفيان الثوري: عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال: قال عمر: علي أقضانا وأبي أقرؤنا, وإنا لندع من قول أبي, وذلك أن أبيا يقول: ما أدع شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم, والله يقول: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها}, قال البخاري: أخبرنا يحيى أخبرنا سفيان عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال: قال عمر: أقرؤنا أبيّ وأقضانا علي, وإِنا لندع من قول أبي, وذلك أن أبيا يقول: لا أدع شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد قال الله: {ما ننسخ من آية أو ننسها} وقوله: {نأت بخير منها أو مثلها}, أي في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين, كما قال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس {نأت بخير منها} ويقول خير لكم في المنفعة وأرفق بكم. وقال أبو العالية: {ما ننسخ من آية} فلا نعمل بها {أو ننسأها}, أي نرجئها عندنا نأت بها أو نظيرها, وقال السدي {نأت بخير منها أو مثلها} يقول: نأت بخير من الذي نسخناه أو مثل الذي تركناه. وقال قتادة: {نأت بخير منها أو مثلها} يقول: آية فيها تخفيف فيها رخصة فيها أمر فيها نهي, وقوله: {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير * ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير}, يرشد عباده تعالى بهذا, إلى أنه المتصرف في خلقه, بما يشاء, فله الخلق والأمر وهو المتصرف, فكما خلقهم كما يشاء, ويسعد من يشاء, ويشقي من يشاء ويصح من يشاء ويمرض من يشاء, ويوفق من يشاء, ويخذل من يشاء كذلك يحكم في عباده بما يشاء, فيحل ما يشاء ويحرم ما يشاء ويبيح ما يشاء ويحظر ما يشاء وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه, ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون, ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ, فيأمر بالشيء لما فيه من المصحلة التي يعلمها تعالى, ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله في تصديق ما أخبروا, وامتثال ما أمروا, وترك ما عنه زجروا وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم لعنهم الله, في دعوى استحالة النسخ, إما عقلاً كما زعمه بعضهم جهلاً وكفراً, وإما نقلاً كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكا, قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: فتأويل الاَية: ألم تعلم يا محمد, أن لي ملك السموات والأرض وسلطانها دون غيري, أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء, وآمر فيهما وفيما فيهما بماأشاء, وأنهى عما أشاء, وأنسخ وأبدل وأغير, من أحكامي التي أحكم بها في عبادي, بما أشاء إذ أشاء, وأقر فيهما ما أشاء, ثم قال: وهذا الخبر وإن كان خطاباً من الله تعالى, لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر, عن عظمته فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود, الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة السلام, لمجيئهما بما جاءا به من عند الله, بتغيير ما غير الله من حكم التوراة, فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما, وأن الخلق أهل مملكته, وطاعته وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه, وأن له أمرهم بما يشاء ونهيهم عما يشاء, ونسخ ما يشاء, وإقرار ما يشاء, وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه, (قلت) الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ, إنما هو الكفر والعناد, فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى, لأنه يحكم ما يشاء, كما أنه يفعل ما يريد, مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية, كما أحل لاَدم تزويج بناته من بنيه, ثم حرم ذلك, وكما أباح لنوح, بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات, ثم نسخ حل بعضها, وكان نكاح الأختين مباحاً لإسرائيل وبنيه, وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها, وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده, ثم نسخه قبل الفعل, وأمر جمهور بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم, ثم رفع عنهم القتل كيلا يستأصلهم القتل, وأشياء كثيرة يطول ذكرها وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه وما يجاب به عن هذه الأدلة بأجوبة لفظية فلا يصرف الدلالة في المعنى, إذ هو المقصود, وكما في كتبهم مشهوراً من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم والأمر باتباعه, فإنه يفيد وجوب متابعته عليه الصلاة والسلام, وأنه لا يقبل عمل إلا على شريعته, وسواء قيل إن الشرائع المتقدمة مغيّاة إلى بعثه عليه السلام, فلا يسمى ذلك نسخاً لقوله: {ثم أتموا الصيام إلى الليل}, وقيل: إنها مطلقة, وإن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسختها, فعلى كل تقدير فوجوب متابعته متعين, لأنه جاء بكتاب وهو آخر الكتب عهداً با لله تبارك وتعالى, ففي هذا المقام بين تعالى جواز النسخ, رداً على اليهود عليهم لعنة الله, حيث قال تعالى: {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ؟ * ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض} الاَية, فكما أن له الملك بلا منازع, فكذلك له الحكم بما يشاء, {ألا له الخلق والأمر}وقرىء في سورة آل عمران, التي نزل في صدرها خطاباً مع أهل الكتاب, وقوع النسخ في قوله تعالى: {كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} الاَية, كما سيأتي تفسيره والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله تعالى, لما له في ذلك من الحكمة البالغة, وكلهم قال بوقوعه, وقال أبو مسلم الأصبهاني المفسر: لم يقع شيء من ذلك في القرآن, وقوله ضعيف مردود مرذول, وقد تعسف في الأجوبة عما وقع من النسخ, فمن ذلك قضية العدة بأربعة أشهر وعشر بعد الحول, لم يجب عن ذلك بكلام مقبول, وقضية تحويل القبلة إلى الكعبة. عن بيت المقدس لم يجب بشيء, ومن ذلك نسخ مصابرة المسلم لعشرة من الكفرة إلى مصابرة الاثنين, ومن ذلك نسخ وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك, والله أعلم.





** أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىَ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلّ سَوَآءَ السّبِيلِ

نهى الله تعالى المؤمنين في هذه الاَية الكريمة, عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبدلكم} أي وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم, ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة, ولهذا جاء في الصحيح: «إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته» ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلاً, فإن تكلم تكلم بأمر عظيم, وإن سكت سكت على مثل ذلك, فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها, ثم أنزل الله حكم الملاعنة, ولهذا ثبت في الصحيحين, من حديث المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال, وإضاعة المال, وكثرة السؤال. وفي صحيح مسلم «ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://domoo3.own0.com/
RoMa
Admin
RoMa


عدد المساهمات : 1980
نقاط : 6051
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 04/09/2011
العمر : 29
الموقع : دموع عيون حبيبى

تفسير سورة البقرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة   تفسير سورة البقرة I_icon_minitimeالأحد أكتوبر 30, 2011 11:21 pm

** وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنْ مّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىَ فِي خَرَابِهَآ أُوْلَـَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاّ خَآئِفِينَ لّهُمْ فِي الدّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الاَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ

اختلف المفسرون في المراد من الذين منعوا مساجد الله وسعوا في خرابها, على قولين: أحدهما ما رواه العوفي في تفسيره عن ابن عباس, في قوله: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} قال: هم النصارى وقال مجاهد: هم النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ويمنعون الناس أن يصلوا فيه, وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: {وسعى في خرابها}. قال هو بختنصر وأصحابه, خرب بيت المقدس, وأعانه على ذلك النصارى. وقال سعيد عن قتادة: قال أولئك أعداء الله, النصارى حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس, وقال السدي: كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس, حتى خربه وأمر أن تطرح فيه الجيف, وإنما أعانه الروم على خرابه, من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا, وروي نحوه عن الحسن البصري, (القول الثاني), ما رواه ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها}, قال: هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية, وبين أن يدخلوا مكة, حتى نحر هديه بذي طوى, وهادنهم وقال لهم: «ما كان أحد يصد عن هذا البيت, وقد كان الرجل, يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده» فقالوا: لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق, وفي قوله: {وسعى في خرابها} قال إذ قطعوا من يعمرها بذكره ويأتيها للحج والعمرة. وقال ابن أبي حاتم ذكر عن سلمة قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس, أن قريشاً منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام, فأنزل الله: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه}, ثم اختار ابن جرير القول الأول, واحتج بأن قريشاً لم تسعَ في خراب الكعبة, وأما الروم فسعوا في تخريب بيت المقدس, (قلت) والذي يظهر, والله يعلم, القول الثاني كما قاله ابن زيد. وروي عن ابن عباس, لأن النصارى إذا منعت اليهود الصلاة في البيت المقدس, كان دينهم أقوم من دين اليهود, وكانوا أقرب منهم, ولم يكن ذكر الله من اليهود مقبولاً إذ ذاك, لأنهم لعنوا من قبل على لسان داود وعيسى ابن مريم, ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون, وأيضاً فإنه تعالى, لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى, شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم: وأصحابه من مكة, ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام, وأما اعتماده على أن قريشاً لم تسعَ في خراب الكعبة, فأي خراب أعظم مما فعلوا ؟ أخرجوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم, كما قال تعالى: {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون}, وقال تعالى: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون * إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الاَخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} وقال تعالى: {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرّة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً} فقال تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الاَخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله}, فإذا كان من هو كذلك مطروداً منها مصدوداً عنها, فأي خراب لها أعظم من ذلك ؟ وليس المراد من عمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط, إنما عمارتها بذكر الله فيها وإقامة شرعه فيها, ورفعها عن الدنس والشرك. وقوله تعالى: {أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين}, هذا خبر معناه الطلب, أي لا تمكنوا هؤلاء إذ قدرتم عليهم من دخولها, إلا تحت الهدنة والجزية, ولهذا لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة, أمر من للعام القابل في سنة تسع أن ينادى برحاب منى: «ألا لا يحجّن بعد العام مشرك, ولا يطوفّن بالبيت عريان, ومن كان له أجل فأجله إلى مدته», وهذا إنما كان تصديقاً وعملاً بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا}, وقال بعضهم: ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين, على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين, أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين منها, والمعنى ما كان إلا الحق والواجب إلا ذلك, لولا ظلم الكفرة وغيرهم وقيل إن هذا بشارة من الله للمسلمين, أنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد, وأنه يذل المشركين لهم, حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد منهم, إلا خائفاً يخاف أن يُؤخذ فيعاقب أو يقتل, إن لم يسلم. وقد أنجز الله هذا الوعد, كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام, وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم, أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان, وأن يجلى اليهود والنصارى منها, ولله الحمد والمنة. وما ذاك إلا تشريف أكناف المسجد الحرام, وتطهير البقعة التي بعث الله فيها رسوله إلى الناس كافة, بشيراً ونذيراً, صلوات الله وسلامه عليه, وهذا هو الخزي لهم في الدنيا, لأن الجزاء من جنس العمل, فكما صدوا المؤمنين عن المسجد الحرام, صدوا عنه, وكما أجلوهم من مكة أجلوا عنها, {ولهم في الاَخرة عذاب عظيم} على ما انتهكوا من حرمة البيت, وامتهنوه من نصب الأصنام حوله, ودعاء غير الله عنده, والطواف به عَرْياً وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله, وأما من فسر بيت المقدس, فقال كعب الأحبار: إن النصارى لما ظهروا على بيت المقدس خربوه, فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم أنزل عليه: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين} الاَية, فليس في الأرض نصراني يدخل بيت المقدس إلا خائفاً, وقال السدي: فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يضرب عنقه, أو قد أخيف بأداء الجزية, فهو يؤديها. وقال قتادة: لا يدخلون المساجد إلا مسارقة, (قلت) وهذا لا ينفي أن يكون داخلاً في معنى عموم الاَية, فإن النصارى لما ظلموا بيت المقدس بامتهان الصخرة, التي كانت تصلي إليها اليهود, عوقبوا شرعاً وقدراً بالذلة فيه, إلا في أحيان من الدهر أشحن بهم بيت المقدس وكذلك اليهود لما عصوا الله فيه أيضاً, أعظم من عصيان النصارى, كانت عقوبتهم أعظم, والله أعلم. وفسر هؤلاء الخزي في الدنيا. بخروج المهدي عند السدي وعكرمة ووائل بن داود, وفسره قتادة بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون, والصحيح أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله, وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الاَخرة, كما قال الإمام أحمد: أخبرنا الهيثم بن خارجة, أخبرنا محمد بن أيوب بن ميسرة بن حلبس, سمعت أبي يحدث عن بشر بن أرطأة, قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: «اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الاَخرة» وهذا حديث حسن, وليس هو في شيء من الكتب الستة, وليس لصحابيه وهو بشر بن أرطاة حديث سواه, وسوى حديث لاتقطع الأيدي في الغزو.





** وَللّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلّواْ فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ إِنّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ

وهذا, والله أعلم, فيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه, الذين أخرجوا من مكة, وفارقوا مسجدهم ومصلاهم, وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم, يصلي بمكة إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه, فلما قدم المدينة, وجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً, ثم صرفه الله إلى الكعبة بعد, ولهذا يقول تعالى: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله}, قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الناسخ والمنسوخ: أخبرنا حجاج بن محمد أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء, عن عطاء عن ابن عباس قال: أول ما نسخ لنا من القرآن فيما ذكر لنا, والله أعلم, شأن القبلة. قال الله تعالى: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فصلى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق, ثم صرفه إلى بيته العتيق ونسخها. فقال {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام, وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة, وكان أهلها اليهود, أمره الله أن يستقبل بيت المقدس, ففرحت اليهود, فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم, وكان يدعو وينظر إلى السماء, فأنزل الله {قد نرى تقلب وجهك في السماء} إلى قوله {فولوا وجوهكم شطره} فارتاب من ذلك اليهود, وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها, فأنزل الله {قل لله المشرق والمغرب}, وقال: {فأينما تولوا فثم وجه الله} وقال عكرمة عن ابن عباس {فأينما تولوا فثم وجه الله} قال: قبلة الله أينما توجهت شرقاً أو غرباً, وقال مجاهد {فأينما تولوا فثم وجه الله} حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها الكعبة, وقال ابن أبي حاتم بعد رواية الأثر المتقدم عن ابن عباس في نسخ القبلة عن عطاء عنه, وروي عن أبي العالية والحسن وعطاء الخراساني وعكرمة وقتادة والسدي وزيد بن

أسلم نحو ذلك, وقال جرير وقال آخرون: بل أنزل الله هذه الاَية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة, وإنما أنزلها ليعلم نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه, أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاؤوا من نواحي المشرق والمغرب, لأنهم لا يوجهون وجوههم وجهاً من ذلك وناحية, إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية, لأن له تعالى المشارق والمغارب وأنه لا يخلو منه مكان كما قال تعالى: {ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا}, قالوا: ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فرض عليهم التوجه إلى المسجد الحرام هكذا قال. وفي قوله وأنه تعالى لا يخلو منه مكان, إن أراد علمه تعالى فصحيح, فإن علمه تعالى محيط بجميع المعلومات, وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شيء من خلقه, تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. قال ابن جرير وقال آخرون: بل نزلت هذه الاَية على رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذناً من الله أن يصلي المتطوع, حيث توجه من شرق أو غرب, في مسيره في سفره, وفي حال المسايفة وشدة الخوف. حدثنا أبو كريب, أخبرنا ابن إدريس, حدثنا عبد الملك هو ابن أبي سليمان, عن سعيد بن جبير عن ابن عمر, أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته, ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, كان يفعل ذلك ويتأول هذه الاَية {فأينما تولوا فثم وجه الله}, ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه, من طرق عن عبد الملك بن أبي سليمان به, وأصله في الصحيحين, من حديث ابن عمر وعامر بن ربيعة, من غير ذكر الاَية. وفي صحيح البخاري من حديث نافع عن ابن عمر, وأنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها, ثم قال: فإن كان خوف أشد من ذلك, صلوا رجالاً قياماً على أقدامهم وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها قال نافع: ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(مسألة) ولم يفرق الشافعي في المشهور عنه, بين سفر المسافة وسفر العدوى, فالجميع عنه يجوز التطوع فيه على الراحلة, وهو قول أبي حنيفة خلافاً لمالك وجماعته, واختار أبو يوسف وأبو سعيد الإصطخري, التطوع على الدابة في المصر, وحكاه أبو يوسف عن أنس بن مالك رضي الله عنه, واختاره أبو جعفر الطبري, حتى للماشي أيضاً. قال ابن جرير وقال آخرون: بل نزلت الاَية في قوم عميت عليهم القبلة, فلم يعرفوا شطرها فصلوا على أنحاء مختلفة, فقال الله تعالى: لي المشارق والمغارب فأين وليتم وجوهكم فهناك وجهي وهو قبلتكم فيعلمكم بذلك أن صلاتكم ماضية. حدثنا محمد بن إسحاق الأهوازي, أخبرنا أبو أحمد الزبيري أخبرنا أبو الربيع السمان, عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة, عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا منزلاً, فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجداً يصلي فيه, فلما أن أصبحنا إذ نحن قد صلينا إلى غير القبلة, فقلنا يارسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة, فأنزل الله تعالى: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} الاَية, ثم رواه عن سفيان بن وكيع عن أبيه عن أبي الربيع السمان بنحوه. ورواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن وكيع وابن ماجه عن يحيى بن حكيم عن أبي داود عن أبي الربيع السمان, ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الصباح, عن سعيد بن سليمان عن أبي الربيع السمان, واسمه أشعث بن سعيد البصري, وهو ضعيف الحديث, وقال الترمذي: هذا حديث حسن, وليس إسناده بذاك ولا نعرفه إلا من حديث الأشعث السمان, وأشعث يضعف في الحديث. قلت وشيخه عاصم أيضاً ضعيف. قال البخاري منكر الحديث. وقال ابن معين: ضعيف لا يحتج به. وقال ابن حبان: متروك, والله أعلم.

وقد روى من طريق آخر, عن جابر فقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الاَية: أخبرنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل, أخبرنا الحسن بن علي بن شبيب, حدثني أحمد بن عبد الله بن الحسن, قال: وجدت في كتاب أبي أخبرنا عبد الملك العزرمي عن عطاء عن جابر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية كنت فيها فأصابتنا ظلمة, فلم نعرف القبلة, فقالت طائفة منا: قد عرفنا القبلة هي ههنا قبل الشمال فصلوا وخطوا خطوطاً فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة, فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبي صلى الله عليه وسلم فسكت وأنزل الله تعالى: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} ثم رواه من حديث محمد بن عبيد الله العزرمي عن عطاء عن جابر به, وقال الدارقطني قرىء على عبد الله بن عبد العزيز وأنا أسمع حدثكم داود بن عمرو أخبرنا محمد بن يزيد الواسطي عن محمد بن سالم عن عطاء عن جابر, قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فأصابنا غيم فتحيرنا فاختلفنا في القبلة فصلى كل رجل منا على حدة وجعل أحدنا يخط بين يديه لنعلم أمكنتنا فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم, فلم يأمرنا بالإعادة, وقال: قد أجزأت صلاتكم, ثم قال الدارقطني: كذا قال عن محمد بن سالم, وقال غيره عن محمد بن عبيد الله العزرمي عن عطاء وهما ضعيفان, ورواه ابن مردويه أيضاً من حديث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأخذتهم ضبابة فلم يهتدوا إلى القبلة فصلوا لغير القبلة ثم استبان لهم بعد أن طلعت الشمس أنهم صلوا لغير القبلة, فلما جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثوه فأنزل الله تعالى في هذه الاَية {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} وهذه الأسانيد فيها ضعف, ولعله يشد بعضها بعضاً, وأما إعادة الصلاة لمن تبين له خطؤه ففيها قولان للعلماء وهذه دلائل على عدم القضاء, والله أعلم.

قال ابن جرير وقال آخرون: بل نزلت هذه الاَية في سبب النجاشي كما حدثنا محمد بن بشار, أخبرنا هشام بن معاذ حدثني أبي عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: إن أخاً لكم قد مات, فصلوا عليه, قالوا نصلي على رجلٍ ليس بمسلم ؟ قال: فنزلت {وإنّ من أهل الكتب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله} قال قتادة: فقالوا إنه كان لا يصلي إلى القبلة, فأنزل الله {ولله المشرق والمغرب فاينما تولوا فثم وجه الله} وهذا غريب, والله أعلم, وقد قيل: إنه كان يصلي إلى بيت المقدس قبل أن يبلغه الناسخ إلى الكعبة, كما حكاه القرطبي عن قتادة, وذكر القرطبي أنه لما مات صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بذلك من ذهب إلى الصلاة على الغائب, قال: وهذا خاص عند أصحابنا من ثلاثة أوجه ـ أحدهما ـ أنه عليه السلام, شاهده حين صلى عليه طويت له الأرض. الثاني أنه لما لم يكن عنده من يصلي عليه صلى عليه واختاره ابن العربي قال القرطبي: ويبعد أن يكون ملك مسلم ليس عنده أحد من قومه على دينه, وقد أجاب ابن العربي عن هذا لعلهم لم يكن عندهم شرعية الصلاة على الميت. وهذا جواب جيد. الثالث أنه عليه الصلاة والسلام إنما صلى عليه ليكون ذلك كالتأليف لبقية الملوك, والله أعلم.

وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الاَية من حديث أبي معشر عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المدينة وأهل الشام وأهل العراق» وله مناسبة ههنا وقد أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي معشر واسمه نجيح بن عبد الرحمن السدي المدني به «ما بين المشرق والمغرب قبلة» وقال الترمذي وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة وتكلم بعض أهل العلم في أبي معشر من قبل حفظه, ثم قال الترمذي: حدثني الحسن بن بكر المروزي, أخبرنا المعلى بن منصور أخبرنا عبد الله بن جعفر المخرمي, عن عثمان بن محمد بن الأخنس عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» ثم قال الترمذي: هذا صحيح, وحكي عن البخاري أنه قال: هذا أقوى من حديث أبي معشر وأصح, قال الترمذي: وقد روي عن غير واحد من الصحابة «ما بين المشرق والمغرب قبلة» منهم عمر بن الخطاب وعلي وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين. وقال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة, إذا استقبلت القبلة, ثم قال ابن مردويه: حدثنا علي بن أحمد بن عبد الرحمن أخبرنا يعقوب بن يوسف مولى بني هاشم, أخبرنا شعيب بن أيوب أخبرنا ابن نمير عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» وقد رواه الدارقطني والبيهقي: وقال المشهور عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما قوله قال ابن جرير ويحتمل فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم لي فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم, كما حدثنا القاسم, أخبرنا الحسين حدثني حجاج قال, قال ابن جريج, قال مجاهد لما نزلت {ادعونيأستجب لكم} قالوا إلى أين, فنزلت {فأينما تولوا فثم وجه الله} قال ابن جرير: ومعنى قوله {إن الله واسع عليم} يسع خلقه كلهم بالكفاية والجود والإفضال, وأما قوله {عليم} فإنه يعني عليم بأعمالهم ما يغيب عنه منها شيء ولا يعزب عن علمه بل هو بجميعها عليم.





** وَقَالُواْ اتّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لّهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلّ لّهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ

اشتملت هذه الاَية الكريمة والتي تليها على الرد على النصارى عليهم لعائن الله وكذا من أشبههم من اليهود ومن مشركي العرب ممن جعل الملائكة بنات الله فأكذب الله جميعهم في دعواهم وقولهم إن لله ولداً, فقال تعالى: {سبحانه} أي تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علواً كبيراً {بل له ما في السموات والأرض} أي ليس الأمر كما افتروا وإنما له ملك السموات والأرض ومن فيهنّ وهوالمتصرف فيهم وهو خالقهم ورازقهم ومقدّرهم ومسخّرهم ومسيّرهم ومصرّفهم كما يشاء والجميع عبيد له وملك له فكيف يكون له ولد منهم والولد إنما يكون متولداً من شيئين متناسبين وهو تبارك وتعالى ليس له نظير ولا مشارك في عظمته وكبريائه ولا صاحبة له فكيف يكون له ولد ؟ كما قال تعالى: {بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} وقال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إدّاً * تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّاً أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً إن كل من في السموات والأرض إلا آت الرحمن عبداً لقد أحصاهم وعدهم عداً وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً} وقال تعالى: {قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد}. فقرر تعالى في هذه الاَيات الكريمة أنه السيد العظيم الذي لا نظير له ولا شبيه له وأن جميع الأشياء غيره مخلوقة له مربوبة فكيف يكون له منها ولد ؟ ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الاَية من البقرة: حدثنا أبو اليمان, أخبرنا شعيب عن عبد الله بن أبي الحسين, حدثنا نافع بن جبير هو ابن مطعم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك, فأما تكذيبه إياي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان, وأما شتمه إياي فقوله أن لي ولداً فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً» انفرد به البخاري من هذا الوجه وقال ابن مردويه حدثنا أحمد بن كامل أخبرنا محمد بن إسماعيل الترمذي, أخبرنا محمد بن إسحاق بن محمد الفروي أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويقول الله تعالى كذبني ابن آدم وما ينبغي له أن يكذبني وشتمني وما ينبغي له أن يشتمني, فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني. وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته¹ وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً. وأنا الله الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد» وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله, إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم» وقوله: {كل له قانتون} قال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو سعيد الأشج, أخبرنا أسباط عن مطرف عن عطية عن ابن عباس قال: {قانتين} مصلين, وقال عكرمة وأبو مالك: {كل له قانتون} مقرون له بالعبودية, وقال سعيد بن جبير: {كل له قانتون}, يقول الإخلاص, وقال الربيع بن أنس: يقول: {كل له قانتون} أي: قائم يوم القيامة, وقال السدي: {كل له قانتون} أي: مطيعون يوم القيامة, وقال خصيف عن مجاهد: {كل له قانتون} قال: مطيعون, قال كن إنساناً فكان, وقال: كن حماراً فكان, وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: كل له قانتون مطيعون, قال: طاعة الكافر في سجود ظله وهو كاره, وهذا القول عن مجاهد وهو اختيار ابن جرير يجمع الأقوال كلها وهو أن القنوت والطاعة والاستكانة إلى الله وهو شرعي وقدري كما قال الله تعالى: {ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والاَصال} وقد ورد حديث فيه بيان القنوت في القرآن ما هو المراد به, كما قال ابن أبي حاتم: أخبرنا يوسف ابن عبد الأعلى, حدثنا ابن وهب, أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم, عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة», وكذا رواه الإمام أحمد: عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة عن دراج بإسناده مثله, ولكن في هذا الإسناد ضعف لا يعتمد عليه, ورفع هذا الحديث منكر, وقد يكن من كلام الصحابي أو من دونه, والله أعلم.

وقوله تعالى: {بديع السموات والأرض} أي: خالقهما على غير مثال سبق¹ قال مجاهد والسدي: وهو مقتضى اللغة, ومنه يقال للشيء المحدث بدعة, كما جاء في صحيح مسلم: فإن كل محدثة بدعة, والبدعة على قسمين: تارة تكون بدعة شرعية, كقوله: «فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة», وتارة تكون بدعة لغوية, كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم: نعمت البدعة هذه, وقال ابن جرير: {بديع السموات والأرض} مبدعهما, وإنما هو مفعل فصرف إلى فعيل, كما صرف المؤلم إلى الأليم, والمسمع إلى السميع, ومعنى المبدع المنشىء والمحدث, ما لا يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد, قال: ولذلك سمي المبتدع في الدين, مبتدعاً لإحداثه فيه, ما لم يسبق إليه غيره, وكذلك كل محدث قولاً أو فعلاً, لم يتقدم فيه متقدم, فإن العرب تسميه مبتدعاً, ومن ذلك قول أعشى بن ثعلبة في مدح هوذة بن علي الحنفي:

يدعي إلى قول سادات الرجال إذاأبدوا له الحزم أو ما شاءه ابتدعا



أي يحدث ما شاء, قال ابن جرير: فمعنى الكلام سبحان الله أن يكون له ولد, وهو مالك ما في السموات والأرض تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوحدانية, وتقر له بالطاعة, وهو بارئها وخالقها وموجدها, من غير أصل ولا مثال احتذاها عليه, وهذا إعلام من الله لعباده, أن ممن يشهد له بذلك المسيح, الذي أضافوا إلى الله بنوته, وإخبار منه لهم, أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل, وعلى غير مثال, هو الذي ابتدع المسيح عيسى, من غير والد بقدرته, وهذا من ابن جرير رحمه الله كلام جيد وعبارة صحيحة. وقوله تعالى: {وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} يبين بذلك تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه, وأنه إذا قدر أمراً وأراد كونه, فإنما يقول له كن, أي: مرة واحدة فيكون, أي: فيوجد, على وفق ما أراد كما قال تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون}, وقال تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون}, وقال تعالى: {وما أمرنا إلا واحدة كلمح البصر} وقال الشاعر:

إذا ما أراد أمراً فإنمايقول له كن قوله فيكون



ونبه بذلك أيضاً, على أن خلق عيسى بكلمة كن فكان كما أمره الله, قال الله تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}.





** وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيّنّا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ

قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال: قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد إن كنت رسولاً من الله كما تقول, فقل لله فيكلمنا حتى نسمع كلامه¹ فأنزل الله في ذلك من قوله: {وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية}, وقال مجاهد: {وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية}, قال النصارى تقوله, وهو اختيار ابن جرير, قال: لأن السياق فيهم, وفي ذلك نظر, وحكى القرطبي: {لولا يكلمنا الله}, أي: يخاطبنا بنبوتك يا محمد, (قلت): وهو ظاهر السياق, والله أعلم, وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة والسدي في تفسير هذه الاَية: هذا قول كفار العرب {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم}, قال: هم اليهود والنصارى, ويؤيد هذا القول, وأن القائلين ذلك هم مشركو العرب, قوله تعالى: {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله يعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون} الاَية, قوله تعالى: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً} إلى قوله: {قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً}, وقوله تعالى: {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا} الاَية, وقوله تعالى: {بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفاً منشرة}¹ إلى غير ذلك من الاَيات الدالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به, إنما هو الكفر والمعاندة, كما قال من قبلهم من الأمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم, كما قال تعالى: {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة}, وقال تعالى: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة}, وقوله تعالى: {تشابهت قلوبهم}¹ أي أشبهت قلوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو, كما قال تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به} الاَية, وقوله تعالى: {قد بينا الاَيات لقوم يوقنون}, أي قد أوضحنا الدلالات على صدق الرسل, بما لا يحتاج معها إلى سؤال آخر وزيادة أخرى لمن أيقن وصدق واتبع الرسل, وفهم ما جاؤوا به عن الله تبارك وتعالى, وأما من ختم الله على قلبه وسمعه, وجعل على بصره غشاوة, فأولئك قال الله فيهم: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم}.





** إِنّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي أخبرنا عبد الرحمن بن صالح أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الفزاري, عن شيبان النحوي, أخبرني قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النّبي صلى الله عليه وسلم, قال: «أنزلت عليّ {إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً}, قال: بشيراً بالجنة ونذيراً من النار», وقوله: {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} قراءة أكثرهم ولا تسأل بضم التاء, على الخبر وفي قراءة أبي بن كعب, وما تسأل, وفي قراءة ابن مسعود ولن تسأل عن أصحاب الجحيم, نقلها ابن جرير, أي: لا نسالك عن كفر من كفر بك كقوله: {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}, وكقوله تعالى: {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر} الاَية, وكقوله تعالى: {نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد}¹ وأشباه ذلك من الاَيات, وقرأ آخرون: «ولا تسأل عن أصحاب الجحيم» بفتح التاء على النهي, أي: لا تسأل عن حالهم, كما قال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليت شعري ما فعل أبواي ليت شعري ما فعل أبواي ليت شعري ما فعل أبواي ؟» فنزلت: {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم}, فما ذكرهما حتى توفاه الله عز وجل, ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن موسى بن عبيدة, وقد تكلموا فيه عن محمد بن كعب بمثله, وقد حكاه القرطبي, عن ابن عباس ومحمد بن كعب, قال القرطبي: وهذا كما يقال لا تسأل عن فلان, أي: قد بلغ فوق ما تحسب, وقد ذكرنا في التذكرة أن الله أحيا له أبويه حتى آمنا به, وأجبنا عن قوله: «أبي وأباك في النار», (قلت): والحديث المروي في حياة أبويه عليه السلام, ليس في شيء من الكتب الستة ولا غيرها, وإسناده ضعيف, والله أعلم.

ثم قال ابن جرير: وحدثني القاسم أخبرنا الحسين حدثني حجاج عن ابن جريج, أخبرني داود بن أبي عاصم به, أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: «أين أبواي» ؟ فنزلت: {إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ولا تسأل عن أصحاب الجحيم}, وهذا مرسل كالذي قبله, وقد رد ابن جرير هذا القول المروي, عن محمد بن كعب وغيره في ذلك, لاستحالة الشك من الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر أبويه, واختار القراءة الأولى, وهذا الذي سلكه ههنا فيه نظر, لاحتمال أن هذا كان في حال استغفاره لأبويه, قبل أن يعلم أمرهما, فلما علم ذلك تبرأ منهما, وأخبر عنهما أنهما من أهل النار, كما ثبت هذا في الصحيح, ولهذا أشباه كثيرة ونظائر ولا يلزم ما ذكر ابن جرير, والله أعلم.

وقال الإمام أحمد: أخبرنا موسى بن داود حدثنا فليح بن سليمان, عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار, قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص, فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن¹ يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين, وأنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل, لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق, ولا يدفع بالسيئة السيئة, ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء, بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً. انفرد بإخراجه البخاري, فرواه في البيوع عن محمد بن سنان عن فليح به, وقال تابعه عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال: وقال سعيد بن هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام, ورواه في التفسير عن عبد الله عن عبد العزيز بن أبي سلمة, عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص به فذكر نحوه, فعبد الله هذا هو ابن صالح, كما صرح به في كتاب الأدب, وزعم ابن مسعود الدمشقي أنه عبد الله بن رجاء, وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الاَية من البقرة, عن أحمد بن الحسن بن أيوب عن محمد بن أحمد بن البراء, عن المعافى بن سليمان عن فليح به وزاد: قال عطاء: ثم لقيت كعب الأحبار فسألته, فما اختلفا في حرف إلا أن كعباً قال بلغته: أعيناً عمومى, وآذاناً صمومى, وقلوباً غلوفاً.





** وَلَنْ تَرْضَىَ عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النّصَارَىَ حَتّىَ تَتّبِعَ مِلّتَهُمْ قُلْ إِنّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ الّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ * الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ

قال ابن جرير: يعني بقوله جل ثناؤه: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبداً, فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم, وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق, وقوله تعالى: {قل إن هدى الله هو الهدى} أي: قل يا محمد إن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى, يعني هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل, قال قتادة في قوله: {قل إن هدى الله هو الهدى} قال: خصومة علمها الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه يخاصمون بها أهل الضلالة, قال قتادة: وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق, ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله», (قلت): هذا الحديث مخرج في الصحيح عن عبد الله بن عمرو, {ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير} فيه تهديد ووعيد شديد للأمة, عن اتباع طرائق اليهود والنصارى بعد ما علموا من القرآن والسنة, عياذاً بالله من ذلك فإن الخطاب مع الرسول والأمر لأمته¹ وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله: {حتى تتبع ملتهم} حيث أفرد الملة على أن الكفر كله ملة واحدة, كقوله تعالى: {لكم دينكم ولي دين} فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفار, وكل منهم يرث قرينه سواء كان من أهل دينه أم لا, لأنهم كلهم ملة واحدة وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في رواية عنه, وقال في الرواية الأخرى كقول مالك, إنه لا يتوارث أهل ملتين شتى, كما جاء في الحديث, والله أعلم. وقوله: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته} قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: هم اليهود والنصارى, وهو قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, واختاره ابن جرير, وقال سعيد عن قتادة: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا إبراهيم بن موسى وعبد الله بن عمران الأصبهاني, قال: أخبرنا يحيى بن يمان حدثنا أسامة بن زيد, عن أبيه عن عمر بن الخطاب {يتلونه حق تلاوته} قال: إذا مر بذكر الجنة سأل الله الجنة, وإذا مر بذكر النار تعوذ بالله من النار, وقال أبو العالية: قال ابن مسعود: والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله, ويحرم حرامه, ويقرأه كما أنزله الله, ولا يحرف الكلم عن مواضعه, ولا يتأول منه شيئاً على غير تأويله, وكذا رواه عبد الرزاق, عن معمر عن قتادة ومنصور بن المعتمر عن ابن مسعود, قال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس في هذه الاَية قال: يحلون حلاله ويحرمون حرامه ولا يحرفونه عن مواضعه¹ قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن مسعود نحو ذلك, وقال الحسن البصري: يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه, ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه, وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو زرعة أخبرنا إبراهيم بن موسى أخبرنا ابن أبي زائدة أخبرنا داود بن أبي هند, عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {يتلونه حق تلاوته} قال: يتبعونه حق اتباعه, ثم قرأ: {والقمر إذا تلاها} يقول: اتبعها قال: وروي عن عكرمة وعطاء ومجاهد وأبي رزين وإبراهيم النخعي نحو ذلك. وقال سفيان الثوري: أخبرنا زبيد عن مرة عن عبد الله بن مسعود, في قوله: {يتلونه حق تلاوته} قال: يتبعونه حق اتباعه, قال القرطبي: وروى نصر بن عيسى عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النّبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {يتلونه حق تلاوته} قال: «يتبعونه حق اتباعه» ثم قال في إسناده غير واحد من المجهولين فيما ذكره الخطيب إلا أن معناه صحيح. وقال أبو موسى الأشعري: من يتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة. وعن عمر بن الخطاب: هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله, وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها, قال: وقد روي هذا المعنى عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا مرّ بآية رحمة سأل, وإذا مرّ بآية عذاب تعوذ, وقوله: {أولئك يؤمنون به} خبر عن {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته} أي: من أقام كتابه من أهل الكتب المنزلة على الأنبياء المتقدمين حق إقامته, آمن بما أرسلتك به يا محمد, كما قال تعالى: {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} الاَية, {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم} أي: إذا أقمتموها حق الإقامة وآمنتم بها حق الإيمان وصدقتم ما فيها من الأخبار بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته والأمر باتباعه ونصره وموازرته, قادكم ذلك إلى الحق واتباع الخير في الدنيا والاَخرة كما قال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل} الاَية, وقال تعالى: {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً} أي: إن كان ما وعدنا به من شأن محمد صلى الله عليه وسلم لواقعاً, وقال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون} وقال تعالى: {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين ءأسلتم ؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد} ولهذا قال تعالى: {ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون} كما قال تعالى: {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} وفي الصحيح: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة, يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار».





** يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الّتِيَ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّي فَضّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتّقُواْ يَوْماً لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ

قد تقدم نظير هذه الاَية في صدر السورة وكررت ههنا للتأكيد والحث على اتباع الرسول النبي الأمي الذي يجدون صفته في كتبهم نعته واسمه وأمره وأمته فحذرهم من كتمان هذا, وكتمان ما أنعم به عليهم وأمرهم أن يذكروا نعمة الله عليهم من النعم الدنيوية والدينية ولا يحسدوا بني عمهم من العرب على ما رزقهم الله من إرسال الرسول الخاتم منهم, ولا يحملهم ذلك على الحسد على مخالفته وتكذيبه والحيد عن موافقته, صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين.





** وَإِذِ ابْتَلَىَ إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمّهُنّ قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرّيّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ

يقول تعالى منبهاً على شرف إبراهيم خليله عليه السلام وأن الله تعالى جعله إماماً للناس يقتدى به في التوحيد حين قام بما كلفه الله تعالى به من الأوامر والنواهي, ولهذا قال: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات} أي: واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملة إبراهيم وليسوا عليها وإنما الذي هو عليها مستقيم فأنت والذين معك من المؤمنين, اذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم أي: اختباره له بما كلفه به من الأوامر والنواهي (فأتمهن) أي: قام بهن كلهن كما قال تعالى: {وإبراهيم الذي وفى} أي: وفي جميع ما شرع له فعمل به صلوات الله عليه وقال تعالى: {إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين * شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم * وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الاَخرة لمن الصالحين * ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين} وقال تعالى: {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم * ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين}, وقال تعالى: {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين * إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين}, وقوله تعالى: {بكلمات} أي: بشرائع وأوامر ونواه, فإن الكلمات تطلق, ويراد بها الكلمات القدرية كقوله تعالى عن مريم عليها السلام: {وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} وتطلق, ويراد بها الشرعية, كقوله تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً} أي: كلماته الشرعية, وهي إما خبر صدق, وإما طلب عدل إن كان أمراً أو نهياً, ومن ذلك هذه الاَية الكريمة: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن}, أي: قام بهن قال: {إني جاعلك للناس إماماً} أي: جزاء على ما فعل, كما قام بالأوامر وترك الزواجر جعله الله للناس قدوة, وإماماً يقتدى به ويحتذى حذوه.

وقد اختلف في تعيين الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل عليه السلام, فروي عن ابن عباس في ذلك روايات, فقال عبد الرزاق, عن معمر عن قتادة قال ابن عباس: ابتلاه الله بالمناسك, وكذا رواه أبو إسحاق السبيعي عن التميمي عن ابن عباس. وقال عبد الرزاق أيضاً, أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات}, قال: ابتلاه بالطهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد, في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس, وفي الجسد تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول بالماء, قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن المسيب ومجاهد والشعبي والنخعي, وأبي صالح وأبي الجلد نحو ذلك, (قلت): وقريب من هذا ما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عشر من الفطرة: قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء, ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة». قال وكيع: انتقاص الماء يعني الاستنجاء, وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «الفطرة خمس: الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط», ولفظه لمسلم. وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا يونس بن عبد الأعلى قراءة, أخبرنا ابن وهب, أخبرني ابن لهيعة عن ابن هبيرة عن حنش بن عبد الله الصنعاني عن ابن عباس أنه كان يقول في تفسير هذه الاَية: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} قال: عشر ست في الإنسان وأربع في المشاعر, فأما التي في الإنسان حلق العانة, ونتف الإبط والختان, وكان ابن هبيرة يقول: هؤلاء الثلاثة واحدة, وتقليم الأظفار وقص الشارب والسواك وغسل يوم الجمعة, والأربعة التي في المشاعر: الطواف والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار والإفاضة. وقال داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: ما ابتلي بهذا الدين أحد فقام به كله إلا إبراهيم, قال الله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} قلت له: وما الكلمات التي ابتلى الله إبراهيم بهن فأتمهن ؟ قال: الإسلام ثلاثون سهماً منها عشر آيات في براءة {التائبون العابدون} إلى آخر الاَية, وعشر آيات في أول سورة: {قد أفلح المؤمنون}, و {سأل سائل بعذاب واقع} وعشر آيات في الأحزاب: {إن المسلمين والمسلمات} إلى آخر الاَية فأتمهن كلهن فكتبت له براءة, قال الله: {وإبراهيم الذي وفى} هكذا رواه الحاكم وأبو جعفر بن جرير وأبو محمد بن أبي حاتم بأسانيدهم إلى داود بن أبي هند وهذا لفظ ابن أبي حاتم¹ وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال: الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن, فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم, ومحاجته نمروذ في الله حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافه, وصبره على قذفه إياه في النار ليحرقوه في الله على هول ذلك من أمرهم, والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده في الله حين أمره بالخروج عنهم وما أمره به من الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله, وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمره بذبحه فلما مضى على ذلك من الله كله وأخلصه للبلاء, قال الله له: {أسلم قال أسلمت لرب العالمين} على ما كان من خلاف الناس وفراقهم. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو سعيد الأشج أخبرنا إسماعيل بن علية عن أبي رجاء عن الحسن, يعني البصري {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} قال: ابتلاه بالكوكب فرضي عنه, وابتلاه بالقمر فرضي عنه, وابتلاه بالشمس فرضي عنه, وابتلاه بالهجرة فرضي عنه, وابتلاه بالختان فرضي عنه, وابتلاه بابنه فرضي عنه¹ وقال ابن جرير: أخبرنا بشر بن معاذ أخبرنا يزيد بن زريع, أخبرنا سعيد عن قتادة قال: كان الحسن يقول: أي والله لقد ابتلاه بأمر فصبر
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://domoo3.own0.com/
RoMa
Admin
RoMa


عدد المساهمات : 1980
نقاط : 6051
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 04/09/2011
العمر : 29
الموقع : دموع عيون حبيبى

تفسير سورة البقرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة   تفسير سورة البقرة I_icon_minitimeالأحد أكتوبر 30, 2011 11:23 pm

وقد أدرك المسلمون ذلك فيه كما قال عبد الله بن وهب: أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب: أن أنس ابن مالك حدثهم, قال: رأيت المقام فيه أصابعه عليه السلام وأخمص قدميه, غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم, وقال ابن جرير: بشر بن معاذ أخبرنا يزيد بن زريع, أخبرنا سعيد عن قتادة {واتخذوا من مقام إِبراهيم مصلى} إِنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه. وقد تكلفت هذه الأمة شيئاً ما تكلفته الأمم قبلها, ولقد ذكر لنا من رأى أثر عقبه وأصابعه فيه فما زالت هذه الأمة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى, (قلت) وقد كان هذا المقام ملصقاً بجدار الكعبة قديماً ومكانه معروف اليوم إِلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك, وكان الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إِلى جدار الكعبة أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك ولهذا, والله أعلم, أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف, وناسب أن يكون عند مقام إِبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه, وإِنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباعهم, وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم
«اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» وهو الذي نزل القرآن بوفاته في الصلاة عنده, ولهذا لم ينكر ذلك أحد من أصحابه رضي الله عنهم أجمعين, قال عبد الرزاق عن ابن جريج: حدثني عطاء وغيره من أصحابنا, قال: أول ما نقله عمر بن الخطاب رضي الله عنه, وقال عبد الرزاق أيضاً عن معمر, عن حميد الأعرج, عن مجاهد, قال: أول من أخر المقام إِلى موضعه الاَن عمر بن الخطاب رضي الله عنه, وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن الحسين البيهقي: أخبرنا أبو الحسين بن الفضيل القطان, أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل, حدثنا أبو إِسماعيل محمد بن إِسماعيل السلمي, حدثنا أبو ثابت, حدثنا الدراوردي عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها: أن المقام كان زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم, وزمان أبي بكر رضي الله عنه, ملتصقاً بالبيت, ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه, وهذا إِسناد صحيح مع ما تقدم, وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا ابن أبي عمر العدني قال: قال سفيان, يعني ابن عيينة وهو إِمام المكيين في زمانه: كان المقام من سقع البيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فحوله عمر إِلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد قوله {واتخذوا من مقام إِبراهيم مصلى} قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إِياه من موضعه هذا, فرده عمر إِليه, وقال سفيان: لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله, وقال سفيان لا أدري أكان لاصقاً بها أم لا ؟ فهذه الاَثار متعاضدة على ما ذكرناه, والله علم, وقد قال الحافظ أبو بكر بن مردويه: أخبرنا ابن عمر وهو أحمد بن محمد بن حكيم, أخبرنا محمد بن عبد الوهاب بن أبي تمام, أخبرنا آدم هو ابن أبي إِياس في تفسيره, أخبرنا شريك عن إِبراهيم بن المهاجر عن مجاهد, قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله لو صلينا خلف المقام, فأنزل الله {واتخذوا من مقام إِبراهيم مصلى} فكان المقام عند البيت, فحوله رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضعه هذا. قال مجاهد: وكان عمر يرىَ الرأي فينزل به القرآن, هذا مرسل عن مجاهد, وهو مخالف لما تقدم من رواية عبد الرزاق عن معمر, عن حميد الأعرج, عن مجاهد: أن أول من أخر المقام إِلى موضعه الاَن عمر بن الخطاب رضي الله عنه, وهذا أصح من طريق ابن مردويه مع اعتضاد هذا بما تقدم, والله أعلم.

وَعَهِدْنَآ إِلَىَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهّرَا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرّكّعِ السّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمّ أَضْطَرّهُ إِلَىَ عَذَابِ النّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبّنَا تَقَبّلْ مِنّآ إِنّكَ أَنتَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيّتِنَآ أُمّةً مّسْلِمَةً لّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنّكَ أَنتَ التّوّابُ الرّحِيمُ

قال الحسن البصري: قوله {وعهدنا إِلى إِبراهيم وإِسماعيل} قال: أمرهما الله أن يطهراه من الأذى والنجس, ولا يصيبه من ذلك شيء, وقال ابن جريج: قلت لعطاء: ما عهده ؟ قال: أمره. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم {وعهدنا إِلى إِبراهيم} أي أمرناه كذا, قال: والظاهر أن هذا الحرف إِنما عدي بإِلى لأنه في معنى تقدمنا وأوحينا, وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قوله {أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين} قال: من الأوثان, وقال مجاهد وسعيد بن جبير {طهرا بيتي للطائفين} أن ذلك من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس. قال ابن أبي حاتم, وروي عن عبيد بن عمير وأبي العالية وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وقتادة {أن طهرا بيتي} أي بلا إِله إِلا الله من الشرك, وأما قوله تعالى: {للطائفين} فالطواف بالبيت معروف وعن سعيد بن جبير أنه قال في قوله تعالى {للطائفين} يعني من أتاه من غرابة {والعاكفين} المقيمين فيه, وهكذا روي عن قتادة والربيع بن أنس, أنهما فسرا العاكفين بأهله المقيمين فيه, كما قال سعيد بن جبير, وقال يحيى القطان عن عبد الملك هو ابن أبي سليمان, عن عطاء في قوله {والعاكفين} قال: من انتابه من الأمصار فأقام عنده وقال لنا ونحن مجاورون أنتم من العاكفين, وقال وكيع عن أبي بكر الهذلي, عن عطاء, عن ابن عباس, قال: إِذا كان جالساً فهو من العاكفين, وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي, أخبرنا موسى بن إِسماعيل, أخبرنا حماد بن سلمة, أخبرنا ثابت, قال: قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير: ما أراني إِلا مكلم الأمير أن أمنع الذين ينامون في المسجد الحرام, فإِنهم يجنبون ويحدثون. قال: لا تفعل, فإِن ابن عمر سئل عنهم فقال: هم العاكفون. ورواه عبد بن حميد عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة به, (قلت) وقد ثبت في الصحيح أن الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عزب, وأما قوله تعالى: {والركع السجود} فقال وكيع عن أبي بكر الهذلي, عن عطاء عن ابن عباس: والركع السجود, قال: إِذا كان مصلياً فهو من الركع السجود, وكذا قال عطاء وقتادة. قال ابن جرير رحمه الله: فمعنى الاَية, وأمرنا إِبراهيم وإِسماعيل بتطهير بيتي للطائفين, والتطهير الذي أمرنا به في البيت هو تطهيره من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك, ثم أورد سؤالاً فقال: فإِن قيل: فهل كان قبل بناء إِبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه وأجاب بوجهين: (أحدهما) أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده زمان قوم نوح من الأصنام والأوثان, ليكون ذلك سنة لمن بعدهما, إِذ كان الله تعالى قد جعل إِبراهيم إِماماً يقتدى به, كما قال عبد الرحمن بن زيد {أن طهرا بيتي} قال: من الأصنام التي يعبدون, التي كان المشركون يعظمونها (قلت) وهذا الجواب مفرع على أنه كان يعبد عنده أصنام قبل إِبراهيم عليه السلام, ويحتاج إِثبات هذا إِلى دليل عن المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم. (الجواب الثاني) أنه أمرهما أن يخلصا في بنائه لله وحده لا شريك له, فيبنياه مطهراً من الشرك والريب, كما قال جل ثناؤه: {أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار} قال: فكذلك قوله: {وعهدنا إِلى إِبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي} أي ابنياه على طهر من الشرك بي والريب, كما قال السدي {أن طهرا بيتي} ابنيا بيتي للطائفين, وملخص هذا الجواب أن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له للطائفين به, والعاكفين عنده, والمصلين إليه من الركع السجود, كما قال تعالى: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} الاَيات.

وقد اختلف الفقهاء أيهما أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به ؟ فقال مالك رحمه الله, الطواف به لأهل الأمصار أفضل. وقال الجمهور: الصلاة أفضل مطلقاً, وتوجيه كل منهما يذكر في كتاب الأحكام, والمراد من ذلك الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته المؤسس على عبادته وحده لا شريك له, ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه, كما قال تعالى: {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد الله وحده لا شريك له إما بطواف أو صلاة, فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة: قيامها وركوعها وسجودها, ولم يذكر العاكفين لأنه تقدم {سواء العاكف فيه والباد} وفي هذه الاَية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين, واكتفى بذكر الركوع والسجود عن القيام, لأنه قد علم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام, وفي ذلك أيضاً رد على من لا يحجه من أهل الكتابين اليهود والنصارى, لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وإسماعيل , ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وغير ذلك وللاعتكاف والصلاة عنده, وهم لا يفعلون شيئاً من ذلك, فكيف يكونون مقتدين بالخليل وهم لا يفعلون ما شرع الله له ؟ وقد حج البيت موسى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام, كما أخبر بذلك المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى {إن هو إلا وحي يوحى}.

وتقدير الكلام إذا {وعهدنا إلى إبراهيم} أي تقدمنا بوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل {أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} أي طهراه من الشرك والريب, وابنياه خالصاً لله معقلاً للطائفين والعاكفين والركع السجود, وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الاَية الكريمة, ومن قوله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والاَصال} ومن السنة من أحاديث كثيرة من الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك من صيانتها من الأذى والنجاسات وما أشبه ذلك. ولهذا قال عليه السلام «إنما بنيت المساجد لما بنيت له» وقد جمعت في ذلك جزءاً على حدة, ولله الحمد والمنة, وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة, فقيل: الملائكة قبل آدم, روي هذا عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين, ذكره القرطبي وحكى لفظه, وفيه غربة, وقيل: آدم عليه السلام, رواه عبد الرزاق عن ابن جريج, عن عطاء وسعيد بن المسيب وغيرهم: أن آدم بناه من خمسة أجبل: من حراء وطور سيناء وطور زيتا وجبل لبنان والجودي, وهذا غريب أيضاً. وروي عن ابن عباس وكعب الأحبار وقتادة وعن وهب بن منبه: أن أول من بناه شيث عليه السلام, وغالب من يذكر هذه إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب, وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها, وأما إذا صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين.

وقوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الاَخر} قال الإمام أبو جعفر بن جرير: أخبرنا ابن بشار قال: أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي, أخبرنا سفيان عن أبي الزبير, عن جابر بن عبد الله, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه, وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها» وهكذا رواه النسائي عن محمد بن بشار, عن بندار به, وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو بن الناقد كلاهما عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري, وقال ابن جرير أيضاً: أخبرنا أبو كريب وأبو السائب, قالا: حدثنا ابن إدريس, وأخبرنا أبو كريب, أخبرنا عبد الرحيم الرازي, قالا جميعاً: سمعنا أشعث عن نافع, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم كان عبد الله وخليله, وإني عبد الله ورسوله, وإن إبراهيم حرم مكة, وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها: عضاهها وصيدها, لا يحمل فيها سلاح لقتال, ولا يقطع منها شجرة إلا لعلف بعير» وهذه الطريق غريبة ليست في شيء من الكتب الستة, وأصل الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه, قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر, جاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم بارك لنا في ثمرنا, وبارك لنا في مدينتنا, وبارك لنا في صاعنا, وبارك لنا في مدنا, اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك, وإني عبدك ونبيك, وإنه دعاك لمكة, وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة, ومثله معه» ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ذلك الثمر وفي لفظ «بركة مع بركة» ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان ـ لفظ مسلم, ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا قتيبة بن سعيد, أخبرنا بكر بن مضر عن ابن الهاد, عن أبي بكر بن محمد, عن عبد الله بن عمرو بن عثمان, عن رافع بن خديج, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم حرم مكة, وإني أحرم ما بين لابتيها» إنفرد بإخراجه مسلم, فرواه عن قتيبة عن بكر بن مضر به, ولفظه كلفظه سواء, وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: «التمس لي غلاماً من غلمانكم يخدمني» فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه, فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل, وقال في الحديث: ثم أقبل حتى إذا بدا له أحد قال: «هذا جبل يحبنا ونحبه» فلما أشرف على المدينة قال: «اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثلما حرم به إبراهيم مكة, اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم» وفي لفظ لهما «اللهم بارك لهم في مكيالهم, وبارك لهم في صاعهم, وبارك لهم في مدهم» زاد البخاري يعني أهل المدينة ولهما أيضاً عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلته بمكة من البركة» وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها, وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة, ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة» رواه البخاري وهذا لفظه, ولمسلم ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها, وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة, وإني دعوت لها في صاعها ومدها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة» وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: «اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراماً, وإني حرمت المدينة حراماً ما بين مأزميها, أن لا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح لقتال, ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف, اللهم بارك لنا في مدينتنا, اللهم بارك لنا في صاعنا, اللهم بارك لنا في مدنا, اللهم اجعل مع البركة بركتين» الحديث, رواه مسلم, والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة, وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم عليه السلام لمكة, لما في ذلك من مطابقة الاَية الكريمة. وتمسك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل, وقيل: إنها محرمة منذ خلقت مع الأرض, وهذا أظهر وأقوى, والله يعلم.

وقد وردت أحاديث أخر تدل على أن الله تعالى حرم مكة قبل خلق السموات والأرض كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض, فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة, وإنه لم يحلّ القتال فيه لأحد قبلي, ولم يحلّ لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه, ولا ينفر صيده, ولا يلتقط لقطته إلا من عرّفها ولا يختلى خلاها» فقال العباس: يا رسول الله: إلا الإذخر, فإنه لقينهم ولبيوتهم, فقال: «إلا الإذخر» وهذا لفظ مسلم, ولهما عن أبي هريرة نحو من ذلك, ثم قال البخاري بعد ذلك: وقال أبان بن صالح, عن الحسن بن مسلم, عن صفية بنت شيبة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم مثله, وهذا الذي علقه البخاري رواه الإمام أبو عبد الله بن ماجه عن محمد بن عبد الله بن نمير, عن يونس بن بكير, عن محمد بن إسحاق, عن أبان بن صالح, عن الحسن بن مسلم بن يناق, عن صفية بنت شيبة, قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب عام الفتح, فقال: «يا أيها الناس, إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض, فهي حرام إلى يوم القيامة لا يعضد شجرها, ولا ينفر صيدها, ولا يأخذ لقطتها إلا منشد» فقال العباس: إلا الإذخر, فإنه للبيوت والقبور, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلا الإذخر» وعن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: إئذن لي أيها الأمير أن أحادثك قولاً قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح, سمعته أذناي, ووعاه قلبي, وأبصرته عيناي حين تكلم به ـ إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس, فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الاَخر أن يسفك بها دماً, ولا يعضد بها شجرة, فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم. وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار, وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس, فليبلغ الشاهد الغائب» فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو ؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح, إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدمٍ ولا فاراً بخربة, رواه البخاري ومسلم وهذا لفظه.

فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدالة على أن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض, وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم عليه السلام حرمها, لأن إبراهيم بلغ عن الله حكمه فيها وتحريمه إياها وأنها لم تزل بلداً حراماً عند الله قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها, كما أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوباً عند الله خاتم النبيين, وإن آدم لمنجدل في طينته, ومع هذا قال إبراهيم عليه السلام {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم} الاَية, وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقدره. ولهذا جاء في الحديث أنهم قالوا: يا رسول الله, أخبرنا عن بدء أمرك. فقال: «دعوة أبي إبراهيم عليه السلام, وبشرى عيسى بن مريم, ورأت أمي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام» أي أخبرنا عن بدء ظهور أمرك, كما سيأتي قريباً إن شاء الله.

وأما مسألة تفضيل مكة على المدينة كما هو قول الجمهور, أو المدينة على مكة كما هو مذهب مالك وأتباعه, فتذكر في موضع آخر بأدلتها إن شاء الله وبه الثقة. وقوله تعالى إخباراً عن الخليل أنه قال: {رب اجعل هذا بلداً آمناً} أي من الخوف أي لا يرعب أهله, وقد فعل الله ذلك شرعاً وقدراً, كقوله تعالى: {ومن دخله كان آمناً» وقوله: {أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم} إلى غير ذلك من الاَيات, وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيه. وفي صحيح مسلم عن جابر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح» وقال في هذه السورة {رب اجعل هذا بلداً آمناً} أي اجعل هذه البقعة بلداً آمناً} وناسب هذا لأنه قبل بناء الكعبة. وقال تعالى في سورة إبراهيم: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً} وناسب هذا هناك لأنه, والله أعلم, كأنه وقع دعاء مرة ثانية بعد بناء البيت واستقرار أهله به, وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سناً من إسماعيل بثلاث عشرة سنة, ولهذا قال في آخر الدعاء {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق, إن ربي لسميع الدعاء}.

وقوله تعالى: {وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الاَخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب {قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} قال: هو قول الله تعالى, وهذا قول مجاهد وعكرمة, وهو الذي صوبه ابن جرير رحمه الله. قال: وقرأ آخرون: {قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم, كما رواه أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية قال: كان ابن عباس يقول ذلك قول إبراهيم, يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلاً, وقال أبو جعفر عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد {ومن كفر فأمتعه قليلاً} يقول, ومن كفر فأرزقه قليلاً أيضاً {ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} قال محمد بن إسحاق: لما عنّ لإبراهيم الدعوة على من أبى الله أن يجعل له الولاية انقطاعاً إلى الله ومحبته, وفراقاً لمن خالف أمره وإن كانوا من ذريته, حين عرف أنه كائن منهم ظالم لا يناله عهده بخبر اللهله بذلك, قال الله: ومن كفر فإني أرزق البر والفاجر وأمتعه قليلاً, وقال حاتم بن إسماعيل عن حميد الخراط, عن عمار الدهني, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس في قوله تعالى: {رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الاَخر} قال ابن عباس: كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس فأنزل الله: ومن كفر أيضاً أرزقهم كما أرزق المؤمنين, أأخلق خلقاً لا أرزقهم ؟ أمتعهم قليلاً ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير, ثم قرأ ابن عباس {كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً} رواه ابن مردويه, وروي عن عكرمة ومجاهد نحو ذلك أيضاً, وهذا كقوله تعالى: {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون * وقوله تعالى: {ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور * نمتعهم قليلاً ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ} وقوله: {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون * ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكؤون * وزخرفاً وإن كل ذلك لمّا متاع الحياة الدنيا والاَخرة عند ربك للمتقين} وقوله: {ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} أي ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا وبسطنا عليه من ظلها إلى عذاب النار وبئس المصير, ومعناه أن الله تعالى ينظرهم ويمهلهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر كقوله تعالى: {وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير} وفي الصحيحين «لاأحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم» وفي الصحيح أيضاً «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ قوله تعالى: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} وقرأ بعضهم {قال ومن كفر فأمتعه قليلاً} الاَية, جعله من تمام دعاء إبراهيم وهي قراءة شاذة مخالفة للقراء السبعة, وتركيب السياق يأبى معناها, والله أعلم, فإن الضمير في قال: راجع إلى الله تعالى في قراءة الجمهور, والسياق يقتضيه, وعلى هذه القراءة الشاذة يكون الضمير في قال عائداً على إبراهيم, وهذا خلاف نظم الكلام, والله سبحانه هو العلام.

وأما قوله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم} فالقواعد جمع قاعدة وهي السارية والأساس, يقول تعالى: واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت ورفعهما القواعد منه, وهما يقولان {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} وحكى القرطبي وغيره عن أبي وابن مسعود أنهما كانا يقرآن {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}, (قلت) ويدل على هذا قولهما بعده {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} الاَية, فهما في عمل صالح, وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما, كما روى ابن أبي حاتم من حديث محمد بن يزيد بن خنيس المكي عن وهيب بن الورد أنه قرأ {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا} ثم يبكي ويقول: يا خليل الرحمن ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يتقبل منك. وهذا كما حكى الله تعالى عن حال المؤمنين الخلص في قوله {والذين يؤتون ما آتوا} أي يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقربات {وقلوبهم وجلة} أي خائفة أن ألاّ يتقبل منهم, كما جاء به الحديث الصحيح عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه. وقال بعض المفسرين: الذي كان يرفع القواعد هو إبراهيم والداعي إسماعيل, والصحيح أنهما كانا يرفعان ويقولان كما سيأتي بيانه. وقد روى البخاري ههنا حديثا سنورده ثم نتبعه بآثار متعلقة بذلك, قال البخاري رحمه الله حدثنا عبد الله بن محمد, أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب السختياني وكثير بن كثير بن عبد المطلب بن أبي وداعة ـ يزيد أحدهما على الاَخر ـ عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقاً ليعفّى أثرها على سارة, ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه, حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد, وليس بها ماء, فوضعهما هنالك ووضع عندهما جراباً فيه تمر, وسقاء فيه ماء, ثم قفا إبراهيم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل, فقالت: ياإبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي ليس فيه أنيس ؟ ولا شيء ؟ فقالت له ذلك مراراً, وجعل لا يلتفت إليها, فقالت: آلله أمرك بذا ؟ قال: نعم: قالت: إذاً لا يضيعنا. ثم رجعت. فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت, ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه, فقال {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم} حتى بلغ {يشكرون} وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء, حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى ـ أو قال: يتلبط ـ فانطلقت كراهية أن تنظر إليه, فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها, فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً, فلم تر أحداً, فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي: رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي, ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً, فلم تر أحدا, ففعلت ذلك سبع مرات, قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فلذلك سعى الناس بينهما» فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت «صه» ـ تريد نفسها ـ ثم تسمعت فسمعت أيضاً, فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه, أو قال: بجناحه, حتى ظهر الماء, فجعلت تحوطه وتقول بيدها هكذا, وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف, قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم ـ أو قال: لو لم تغرف من الماء ـ لكانت زمزم عيناً معيناً» قال: فشربت وأرضعت ولدها, فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة, فإن ههنا بيتاً لله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله, وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله, فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جُرهَم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء, فنزلوا في أسفل مكة, فرأوا طائراً عائفاً, فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء, لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء, فأرسلوا جرياً أو جريين, فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبرهم بالماء, فأقبلوا, قال: وأم إسماعيل عند الماء, فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت: نعم, ولكن لا حق لكم في الماء عندنا, قالوا: نعم, قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم:«فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس» فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم, حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم, وشب الغلام وتعلم العربية منهم, وأنفسهم وأعجبهم حين شب, فلما أدرك زوجوه امرأة منهم, وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل ليطالع تركته فلم يجد إسماعيل, فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا, ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم, فقالت: نحن بشر, نحن في ضيق وشدة, فشكت إليه, قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام, وقولي له يغير عتبة بابه, فلما جاء إسماعيل, كأنه أنس شيئاً, فقال: هل جاءكم من أحد ؟ قالت: نعم, جاءنا شيخ كذا وكذا, فسألنا عنك فأخبرته, وسألني كيف عيشنا ؟ فأخبرته أننا في جهد وشدة, قال: فهل أوصاك بشيء ؟ قالت: نعم, أمرني أن أقرأ عليك السلام, ويقول غير عتبة بابك, قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك, فالحقي بأهلك, وطلقها وتزوج منهم بأخرى, فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد, فلم يجده, فدخل على امرأته فسألها عنه, فقالت: خرج يبتغي لنا, قال: كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم, فقالت: نحن بخير وسعة, وأثنت على الله عز وجل, قال: ما طعامكم ؟ قالت: اللحم, قال: فما شرابكم ؟ قالت: الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء, قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم لدعا لهم فيه» قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه, قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه, فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد ؟ قالت: نعم, أتانا شيخ حسن الهيئة, وأثنت عليه, فسألني عنك فأخبرته, فسألني كيف عيشنا ؟ فأخبرته أنا بخير, قال: فأوصاك بشيء ؟ قالت: نعم, وهو يقرأ عليك السلام, ويأمرك أن تثبت عتبة بابك, قال: ذاك أبي وأنت العتبة, أمرني أن أمسكك, ثم لبث عنهم ما شاء الله, ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريباً من زمزم, فلما رآه قام إليه, وصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد, ثم قال: ياإسماعيل, إن الله أمرني بأمر, قال: فاصنع ما أمرك ربك, قال: وتعينني ؟ قال: وأعينك, قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتاً, وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها, قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت, فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني, حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له, فقام عليه, وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة, وهما يقولان {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}, قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}, ورواه عبد بن حميد عن عبد الرزاق به مطولاً, ورواه ابن أبي حاتم عن أبي عبد الله بن حماد الطبراني, وابن جرير عن أحمد بن ثابت الرازي, كلاهما عن عبد الرزاق به مختصراً.

وقال أبو بكر بن مردويه: أخبرنا إسماعيل بن علي, أخبرنا بشر بن موسى, أخبرنا أحمد بن محمد الأزرقي, أخبرنا مسلم بن خالد الزنجي عن عبد الملك بن جريج, عن كثير بن كثير, قال: كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين في ناس مع سعيد بن جبير في أعلى المسجد ليلاً, فقال سعيد بن جبير: سلوني قبل أن لا تروني, فسألوه عن المقام, فأنشأ يحدثهم عن ابن عباس, فذكر الحديث بطوله.

ثم قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد, أخبرنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو, أخبرنا إبراهيم بن نافع عن كثير بن كثير, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان, خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ومعهم شنة فيها ماء, فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها, حتى قدم مكة, فوضعهما تحت دوحة ثم رجع إبراهيم إلى أهله, فاتبعته أم إسماعيل حتى بلغوا كداء, نادته من ورائه: ياإبراهيم, إلى من تتركنا ؟ قال: إلى الله, قال: فرجعت فجعلت تشرب من الشنة ويدر لبنها على صبيها, حتى لما فني الماء قالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحداً, فصعدت الصفا, فنظرت هل تحس أحداً, فلم تحس أحداً فلما بلغت الوادي سعت حتى أتت المروة وفعلت ذلك أشواطاً حتى أتمت سبعاً, ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي, فذهبت فنظرت فإِذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت, فلم تقرها نفسها, فقالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحداً, فذهبت فصعدت الصفا, فنظرت ونظرت هل تحس أحداً فلم تحس أحداً فلما بلغت الوادي سعت حتى أتت المروة فجعلت ذلك أشواطاً حتى أتمت سبعاً, ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي, فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت, فلم تقرها نفسها, فقالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحداً, فذهبت فصعدت الصفا, فنظرت ونظرت فلم تحس أحداً حتى أتمت سبعاً, ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل, فإِذا هي بصوت فقالت: أغث إِن كان عندك خير, فإِذا جبريل عليه السلام, قال: فقال بعقبه: هكذا, وغمز عقبه على الأرض, فانبثق الماء, فدهشت أم إِسماعيل, فجعلت تحفر, قال: فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «لو تركته لكان الماء ظاهراً» قال: فجعلت تشرب من الماء ويدر لبنها على صبيها, قال فمر ناس من جرهم ببطن الوادي, فإِذا هم بطير كأنهم أنكروا ذلك, وقالوا: ما يكون الطير إِلا على ماء فبعثوا رسولهم, فنظر فإِذا هو بالماء, فأتاهم فأخبرهم, فأتوا إِليها, فقالوا: ياأم إِسماعيل, أتأذنين لنا أن نكون معك ونسكن معك ؟ فبلغ ابنها ونكح منهم امرأة, قال: ثم إِنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال لأهله: إِني مطلع تركتي, قال: فجاء فسلم, فقال: أين إِسماعيل ؟ قالت امرأته: ذهب يصيد, قال: قولي له إِذا جاء: غيّر عتبة بابك, فلما أخبرته, قال: أنت ذاك فاذهبي إِلى أهلك, قال: ثم إِنه بدا لإبراهيم فقال: إِني مطلع تركتي, قال: فجاء فقال: أين إِسماعيل ؟ فقالت امرأته: ذهب يصيد, فقالت: ألا تنزل فتطعم وتشرب ؟ فقال, ما طعامكم, وما شرابكم ؟ فقالت: طعامنا اللحم, وشرابنا الماء, قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم, قال: فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم «بركة بدعوة إبراهيم, قال: ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال لأهله: إِني مطلع تركتي, فجاء فوافق إِسماعيل من وراء زمزم يصلح نبلاًله, فقال: ياإِسماعيل, إِن ربك عز وجل أمرني أن أبني له بيتاً: فقال: أطع ربك عز وجل, قال: إِنه قد أمرني أن تعينني عليه, فقال: إِذن أفعل ـ أو كما قال ـ قال: فقام فجعل إِبراهيم يبني وإِسماعيل يناوله الحجارة, ويقولان {ربنا تقبل منّا إِنك أنت السميع العليم} قال: حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة, فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة ويقولان {ربنا تقبل منا إِنك أنت السميع العليم} هكذا رواه من هذين الوجهين في كتاب الأنبياء.

والعجب أن الحافظ أبا عبد الله الحاكم رواه في كتابه المستدرك عن أبي العباس الأصم عن محمد بن سنان القزاز عن أبي علي عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي عن إِبراهيم بن نافع به, وقال, صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه كذا قال, وقد رواه البخاري كما ترى من حديث إِبراهيم بن نافع, وكأن فيه اختصاراً فإِنه لم يذكر فيه شأن الذبح, وقال جاء في الصحيح أن قرني الكبش كانا معلقين بالكعبة, وقد جاء أن إِبراهيم عليه السلام كان يزور أهله بمكة على البراق سريعاً ثم يعود إِلى أهله بالبلاد المقدسة, والله أعلم, إنما فيه مرفوع أماكن صرح بها ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في هذا السياق ما يخالف بعض هذا, كما قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى, قالا: أخبرنا مؤمل, أخبرنا سفيان عن أبي إِسحاق, عن حارثة بن مضرب, عن علي بن أبي طالب, قال: لما أمر إِبراهيم ببناء البيت خرج معه إِسماعيل وهاجر, قال: فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة فيه مثل الرأس فكلمه قال: ياإِبراهيم, ابن على ظلي, أو قال: على قدري, ولا تزد ولا تنقص, فلما بنى خرج وخلف إِسماعيل وهاجر, فقالت هاجر: ياإِبراهيم, إِلى من تكلنا ؟ قال: إِلى الله, قالت: انطلق فإِنه لا يضيعنا, قال: فعطش إِسماعيل عطشاً شديداً, قال فصعدت هاجر إِلى الصفا, فنظرت فلم تر شيئاً, حتى أتت المروة فلم تر شيئاً, ثم رجعت إِلى الصفا فنظرت فلم تر شيئاً, ففعلت ذلك سبع مرات, فقالت: ياإِسماعيل مت حيث لاأراك, فأتته وهو يفحص برجله من العطش, فناداها جبريل فقال لها: من أنت ؟ قالت: أنا هاجر أم ولد إِبراهيم, قال: فإِلى من وكلكما ؟ قالت: وكلنا إِلى الله, قال: وكلكما إِلى كاف, قال: ففحص الغلام الأرض بأصبعه, فنبعت زمزم فجعلت تحبس الماء, فقال: دعيه فإِنها رواء, ففي هذا السياق أنه بنى البيت قبل أن يفارقها, وقد يحتمل أنه كان محفوظاً أن يكون أولا وضع له حوطاً وتحجيراً لا أنه بناه إِلى أعلاه, حتى كبر إِسماعيل فبنياه معاً كما قال الله تعالى.

ثم قال ابن جرير: أخبرنا هناد بن السري, حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن خالد بن عرعرة: أن رجلاً قام إِلى علي رضي الله عنه, فقال: ألا تخبرني عن البيت, أهو أول بيت وضع في الأرض ؟ فقال: لا, ولكنه أول بيت وضع في البركة مقام إِبراهيم, ومن دخله كان آمناً, وإِن شئت أنبأتك كيف بني: إِن الله أوحى إِلى إِبراهيم أن ابن لي بيتاً في الأرض, فضاق إِبراهيم بذلك ذرعاً فأرسل الله السكينة وهي ريح خجوج ولها رأسان, فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت إِلى مكة فتطورت على موضع البيت كطي الحجفة, وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة, فبنى إِبراهيم وبقي الحجر فذهب الغلام يبغي شيئاً, فقال إِبراهيم: أبغني حجراً كما آمرك, قال: فانطلق الغلام يلتمس له حجراً فأتاه به فوجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه, قال: ياأبت من أتاك بهذا الحجر ؟ قال: أتاني به من لم يتكل على بنائك, جاء به جبريل عليه السلام من السماء فأتماه.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبدالله بن يزيد المقري, أخبرنا سفيان عن بشر بن عاصم, عن سعيد بن المسيب عن كعب الأحبار, قال: كان البيت غثاءة على الماء قبل أن يخلق الله الأرض بأربعين عاماً, ومنه دحيت الأرض. قال سعيد: وحدثنا علي بن أبي طالب: أن إِبراهيم أقبل من أرض أرمينية ومعه السكينة تدله على تبوء البيت كما تتبوأ العنكبوت بيتاً, قال: فكشفت عن أحجار لا يطيق الحجر إِلا ثلاثون رجلاً, فقلت: ياأبا محمد فإِن الله يقول {وإِذ يرفع إِبراهيم القواعد من البيت} قال: كان ذلك بعد, وقال السدي: إِن الله عز وجل أمر إِبراهيم أن يبني البيت هو وإِسماعيل, ابنيا بيتي للطائفين والعاكفين والركع والسجود. فانطلق إِبراهيم حتى أتى مكة فقام هو وإِسماعيل وأخذا المعاول لا يدريان أين البيت, فبعث الله ريحاً يقال لها الريح الخجوج, لها جناحان ورأس في صورة حية, فكشفت لهما حول الكعبة عن أساس البيت الأول, واتبعاها بالمعاول يحفران حت وضعا الأساس, فذلك حين يقول تعالى: {وإِذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت}, {وإِذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت} فلما بنيا القواعد فبلغا مكان الركن, قال إِبراهيم لإسماعيل: يابني, اطلب لي حجراً حسناً أضعه ههنا. قال: ياأبت إِني كسلان لغب, قال: علىّ بذلك, فانطلق يطلب له حجراً فجاءه بحجر فلم يرضه فقال: ائتني بحجر أحسن من هذا فانطلق يطلب له حجراً, وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند, وكان أبيض ياقوتة بيضاء مثل الثغامة, وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس, فجاءه إِسماعيل بحجر فوجده عند الركن, فقال: ياأبت من جاءك بهذا ؟ قال: جاء به من هو أنشط منك, فبنيا وهما يدعوان الكلمات التي ابتلى إِبراهيم ربه, فقال {ربنا تقبل منا إِنك أنت السميع العليم} وفي هذا السياق ما يدل على أن قواعد البيت كانت مبنية قبل إِبراهيم, وإِنما هدي إِبراهيم إِليها وبوىء لها, وقد ذهب إِلى هذا ذاهبون, كما قال الإمام عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أيوب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس {وإِذ يرفع إِبراهيم القواعد من البيت} قال, القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك, وقال عبد الرزاق أيضاً: أخبرنا هشام بن حسان عن سوار ختن عطاء, عن عطاء بن أبي رباح, قال: لما أهبط الله آدم من الجنة كانت رجلاه في الأرض ورأسه في السماء, يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم يأنس إِليهم, فهابت الملائكة حتى شكت إِلى الله في دعائها وفي صلاتها, فخفضه الله تعالى إِلى الأرض, فلما فقد ما كان يسمع منهم استوحش, حتى شكا ذلك إِلى الله في دعائه وفي صلاته, فوجه إِلى مكة فكان موضع قدميه قرية, وخطوه مفازة, حتى انتهى إِلى مكة وأنزل الله ياقوته من ياقوت الجنة, فكانت على موضع البيت الاَن, فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله الطوفان, فرفعت تلك الياقوتة, حتى بعث الله إِبراهيم عليه السلام فبناه, ذلك قول الله تعالى: {وإِذا بوأنا لإِبراهيم مكان البيت} وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج عن عطاء, قال: قال آدم: إِني لاأسمع أصوات الملائكة, فقال: بخطيئتك, ولكن اهبط إِلى الأرض فابن لي بيتاً ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل: من حراء وطور زيتا وطور سيناء والجودي, وكان ربضه من حراء, فكان هذا بناء آدم حتى بناه إِبراهيم عليه السلام بعد, وهذا صحيح إِلى عطاء ولكن في بعضه نكارة, والله أعلم.

وقال عبد الرزاق أيضاً: أخبرنا معمر عن قتادة, قال: وضع الله البيت مع آدم حين أهبط الله آدم إِلى الأرض, وكان مهبطه بأرض الهند, وكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض, فكانت الملائكة تهابه, فنقص إِلى ستين ذراعاً, فحزن آدم إِذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم, فشكا ذلك إِلى الله عز وجل, فقال الله: ياآدم إِني أهبطت لك بيتاً تطوف به كما يطاف حول عرشي, وتصلي عنده كما يُصلّى عند عرشي, فانطلق إِليه آدم, فخرج ومدّ له في خطوه, فكان بين كل خطوتين مفازة, فلم تزل تلك المفازة بعد ذلك, فأتى آدم البيت فطاف به ومن بعده من الأنبياء.

وقال ابن جرير: أخبرنا ابن حميد, أخبرنا يعقوب القمىّ, عن حفص بن حميد, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال, وضع الله البيت على أركان الماء على أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام, ثم دحيت الأرض من تحت البيت. وقال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد وغيره من أهل العلم: إن الله لما بوأ إبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام, وخرج معه إسماعيل وأمه هاجر وإسماعيل طفل صغير يرضع, وحملوا فيما حدثني على البراق, ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم, خرج معه جبريل, فكان لايمر بقرية إلا قال: أبهذه أمرت ياجبريل ؟ فيقول جبريل: امضه, حتى قدم به مكة, وهي إذ ذاك عضاه وسلم وسمر, وبها أناس يقال لهم: العماليق خارج مكة وما حولها, والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة, فقال إبراهيم لجبريل: أههنا أمرت أن أضعهما ؟ قال: نعم, فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه, وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشاً, فقال {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم} إلى قوله: {لعلهم يشكرون} وقال عبد الرزاق: أخبرنا هشام بن حسان, أخبرني حميد, عن مجاهد, قال: خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئاً بألفي سنة, وأركانه في الأرض السابعة, وكذا قال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: القواعد في الأرض السابعة, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, أخبرنا عمرو بن رافع أخبرنا عبد الوهاب بن معاوية عن عبد المؤمن بن خالد, عن علياء بن أحمر: إن ذا القرنين قدم مكة, فوجد إبراهيم وإسماعيل يبنيان قواعد البيت من خمسة أجبل. فقال: ما لكما ولأرضي ؟ فقال: نحن عبدان مأموران, أمرنا ببناء هذه الكعبة. قال: فهاتا البينة على ما تدعيان. فقامت خمسة أكبش فقلن: نحن نشهد أن إبراهيم وإسماعيل عبدان مأموران أمرا ببناء هذه الكعبة. فقال: قد رضيت وسلمت, ثم مضى, وذكر الأزرقي في تاريخ مكة أن ذا القرنين طاف مع إبراهيم عليه السلام بالبيت, وهذا يدل على تقدم زمانه, والله أعلم.

وقال البخاري رحمه الله: قوله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} الاَية, القواعد: أساسه, واحدها قاعدة, والقواعد من النساء واحدتها قاعدة. حدثنا إسماعيل: حدثني مالك عن ابن شهاب, عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر عبد الله بن عمر عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألم تري أن قومك حين بنوا البيت اقتصروا على قواعد إبراهيم ؟» فقلت: يارسول الله, ألا تردها على قواعد إبراهيم ؟ قال «لولا حدثان قومك بالكفر» فقال عبد الله بن عمر: لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين يليان الحجر, إلا أن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم عليه السلام. وقد رواه في الحج عن القعنبي, وفي أحاديث الأنبياء عن عبد الله بن يوسف ومسلم, عن يحيى بن يحيى, ومن حديث ابن وهب والنسائي من حديث عبد الرحمن بن القاسم كلهم عن مالك به. ورواه مسلم أيضاً من حديث نافع قال: سمعت عبد الله بن أبي بكر بن أبي قحافة, يحدث عبد الله بن عمر عن عائشة, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال «لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية أو قال: بكفر ـ لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله, ولجعلت بابها بالأرض ولأدخلت فيها الحجر» وقال البخاري: أخبرنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل, عن أبي اسحاق, عن الأسود, قال: قال لي ابن الزبير: كانت عائشة تسر إليك حديثاً كثيراً, فما حدثتك في الكعبة ؟ قال: قلت: قالت لي: قال النبي صلى الله عليه وسلم «ياعائشة لولا قومك حديث عهدهم ـ فقال ابن الزبير ـ بكفر لنقضت الكعبة, فجعلت لها بابين: باباً يدخل منه الناس, وباباً يخرجون منه» ففعله ابن الزبير, انفرد بإخراجه البخاري فرواه هكذا في كتاب العلم من صحيحه, وقال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى, أخبرنا أبو معاوية عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة, قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «ولولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إِبراهيم, فإن قريشاً حين بنت البيت استقصرت, ولجعلت لها خلفاً»
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://domoo3.own0.com/
 
تفسير سورة البقرة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» تفسير سورة البقرة للشيخ الشعراوى من 109 حلقة
» تفسير سورة فصلت للشيخ الشعراوى
» تفسير سورة الفاتحة
» تفسير سورة طه للشيخ الشعراوى
» تفسير سورة الصافات للشيخ الشعراوى

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى دموع عيون حبيبى :: مكتبة القرأن الكريم :: تفسير القرأن الكريم-
انتقل الى: